معرفة الذّات
مادونا عسكر
لعلّ معرفة الذّات هي الإشكاليّة الأشدّ صعوبة وتعقيداً الّتي يواجهها الإنسان، وذلك لأنّ الإنسان تركيبة غريبة ومعقّدة تجمع في ذاتها تناقضات عدّة ومشاعر مختلفة. وتتأرجح النّفس الإنسانيّة بين العقلانيّة والعاطفيّة، كما أنّها تخضع لعدّة عوامل حياتيّة وسلوكيّة ومحيطيّة قد تبعد الإنسان عن ذاته.
ويغفل الإنسان من حيث يدري أو لا يدري عن الغوص في ذاته ليكتشف أعماقها وقد يكتفي بالمعرفة الظّاهريّة والبعيدة عن العمق الإنساني. والمعرفة الذّاتيّة لا تقتصر على الانتماء الشّخصي والوضع الاجتماعي، والتّصنيف الاجتماعي، وإنّما تتّخذ أبعاداً أخرى لا يدركها الإنسان إلّا حين يقف بصدق أمام ذاته، ويتعرّف عليها ويبحث في داخله عن الأنا الحقيقيّة المجرّدة من كلّ ما أُدخل عليها خلال مسيرته الحياتيّة.
ليس الأمر بالسّهل ولا بالهيّن، فالموضوع يتطلّب اتّزاناً وصفاء، وشفافيّة واقتبالاً لكلّ ما تحمله الذّات الإنسانيّة. كما أنّ التّجرّد يحتاج إلى سكون داخليّ وتواضع يمنح الإنسان القدرة على التّخلص من كلّ الشّوائب الّتي حفرتها السّنون على مدى فترات طويلة.
ويلعب التّواضع دوره الأساسيّ في مصالحة الإنسان مع ذاته وتقبّلها ليتمكّن من النّظر إليها على مستوى الإنسانيّة وليس على مستوى التّميّز بينه وبين آخر. ويكتسب الإنسان التّواضع عندما يتخلىّ عن فكرة أنّه محور العالم وأنّه الأفضل، فالتّواضع يتطلّب منه أن ينظر إلى الجميع على مستوى نظره، فلا تكون النّظرة متعالية أو دونيّة.
كما أنّ معرفة الذّات تفتح آفاق التّعرّف على الآخر بعمقه الإنساني، وعندها يتمكّن الإنسان من قبول الآخر كما هو وتفهّمه وإدراك عمقه الإنساني ومحاكاته إنسانيّاً متخطّياً صعوبات جمّة، ومشاكل عقيمة يواجهها النّاس في التّواصل مع الآخر.
كذلك يتفرّد كلّ إنسان بالوسيلة الّتي تمكّنه من معرفة ذاته، ويتميّز كلّ واحد عن الآخر من خلال تجاربه الخاصّة خلال مسيرته الإنسانيّة، وقد يحيا الإنسان عمراً كاملاً دون التّعرّف على ذاته ودون الوصول إلى جواب حقيقي على سؤال صعب ويستدعي الصّمت أحياناً، ألا وهو "من أنت؟".
"من أنت؟"، سؤال يبدو بظاهره بسيطاً وإنّما قد يصمت العقل والقلب معاً للحظات إذ يتعسر الأوّل على إيجاد الإجابة الشّافية والمنطقيّة، ويشقّ على الثّاني الرّدّ تلقائيّاً وعفويّاً على سؤال يلمس الذّات الإنسانيّة بعمقها.
أمّا لحظات الصّمت هذه فلا تمنعنا عن البحث العقليّ والعاطفيّ لإدراك الذّات والتّعرّف إليها، كما أنّها لا يجب أن تحجب عنّا أهمّيتنا كأفراد في تحدّي الذّات للوصول إلى الجواب المرضي والنّتيجة السّليمة.
من هنا يمكننا اتّباع ثلاث خطوات عمليّة، تساعدنا على التّوغّل في أعماق ذواتنا، وتمكّننا من التّعرّف إليها، واكتشاف بهائها الحقيقيّ المختلف عن الظّاهر، والّذي يطبع الظّاهر بجمال آخر ألا وهو الجمال الإنسانيّ.
-حبّ الذّات:
حبّ الذّات وهو غير الأنانيّة، يمنح الإنسان القدرة على معرفة ذاته فيرفع من إيجابيّاتها ويحاول التّخلّص من سلبيّاتها.
حبّ الذّات ينتج عن تحديد الإنسان لذاته كقيمة إنسانيّة بغض النّظر عن الإيجابيّات والسّلبيّات، إذ إنّ القيمة الإنسانية تكمن في ذاتها وليس بعمل الإنسان. فالإنسان قيمة بحد ذاته عقليّاً وفكريّاً وروحيّاً، وبقدر ما يحبّ هذه القيمة يكون قادرا على تقديم الأفضل، وينتقل من حبّ الذّات بالقوّة إلى حبّ الذّات بالفعل، بمعنى أنّه يتّخذ خطوات إيجابيّة وعمليّة احتراماً لذاته ومحبّة بها. فلمّا كان حبّ الذّات هو تحديد الإنسان كقيمة، وجب عليه احترامها والاهتمام بها وإظهارها بأبهى شكل ليتمكّن من الحفاظ عليها كقيمة إنسانيّة.
كما أنّه لا يجوز الخلط بين حبّ الذّات والأنانيّة، فالأنانيّة هي حبّ الأنا الظّاهريّ وليس الأنا الحقيقيّ، بدليل أنّها تشوّه عمق الإنسان، وتستحوذ عليه بمساوئها. والأنانيّة هي أن يحدّد الإنسان ذاته كقيمة وفق ماديّات ترتبط به فإن فقدها اعتبر أنّه فقد قيمته، وإن امتلكها ظنّ أنّه اكتسب القيمة المرجوّة. وهي الإدّعاء بأنّ الإنسان هو محور العالم فينغلق على ذاته ويتقوقع إلى أن ينتهي وحيداً، غير أنّ حبّ الذّات هو اعتبار الذّات الإنسانيّة ذي أهمّيّة في هذا العالم وعليه أن ينطلق فيه للمساهمة في بنائه.
-نظرة الاخر:
انطلاقاً من حبّ الذّات واحترامها، وتثمين القيمة الإنسانيّة، يجدر بالإنسان ألّا يخنق ذاته بنظرة الآخر. فحين تتحوّل نظرة الآخر إلى عنصر أساسيّ في تقييم الشّخص لذاته فسوف يحول ذلك بينه وبين تقييمه الحقيقيّ لذاته، كما أنّه سيفقده ثقته بذاته، وبقدرته على إظهار القيمة الحقيقيّة لعمله. بيد أنّ نظرة الآخر مهمّة إذا توازت مع تقييم الشّخص لنفسه بحيث أنّه يمكنها تسليط الضّوء على بعض الثّغرات، وبالمقابل تحفيز وتشجيع الفرد في تبيان الصّواب.
على الإنسان أن ينظر إلى ذاته ويقيّمها انطلاقاً من نتيجة العمل ومدى تأثيره الإيجابيّ عليه أوّلاً ثمّ على المحيط، بعيداً عن العواطف والخوف في الانزلاق في تشويه صورته الشّخصيّة. بمعنى أنّ الإنسان غالباً ما يودّ إظهار الصّورة الّتي يرغب في أن يكون عليها إرضاء لنظرة الآخر، ويغفل بشكل لا إرادي وغير واعٍ عن أنّه يحمل في داخله قيمة حقيقيّة يجب الكشف عنها، ويتّسم بجمال حقيقيّ غير الّذي يحلو في نظرة الآخر.
-الثّقة بالذّات:
ولمّا اجتمع حبّ الذّات واحترام نظرة الاخر دون السّماح لها بتقييد انطلاقة الإنسان، ثبت الإنسان في نفسه ووثق بها لا بل تحدّاها باستمرار ليخرج منها كلّ الإبداع. والإبداع لا يقتصر على الأعمال الجبّارة وإنّما على فعل الأعمال البسيطة بقدرة جبارة وعظيمة، والانطلاق قدماً نحو الأحسن والفضل.
إنّ الثّقة بالذّات تمكّن الإنسان من رؤية ذاته على حالها، فيعرف نقاط ضعفه ونقاط قوّته، فيعزف عن الأولى ويستخدم الثّانية في سبيل تحقيق إنسانيّته الّتي يصبو إليها، موظّفاً إيّاها في شتّى التّجارب الشّخصيّة، ليصبغها بالأمثل والأجود ويحقّق أهدافه بثبات ووعي واتّزان.
كما أنّ الثّقة بالذّات تظهر أهمّية المصالحة مع الذّات وقبولها كما هي والتّأمّل فيها والولوج في أعماقها لتمييز الصّالح فيها من الطّالح فيصقَل الأوّل برفعه وتحفيزه، ويُعمل على تقليص الثّاني في سبيل التّخلّص منه.
ولمّا اجتمعت العناصر المؤدية إلى معرفة الذّات، وكملت الشروط أشرف الإنسان على ملامسة الحقيقة.
قد تبدو النّتيجة صادمة، أو عائقاً للعقل وذلك لأنّه يخضع للمحدوديّة، إلّا أنّ العقل وبرغم محدوديّته يمكنه التّحليق في سماء الحقيقة، من خلال إطلاق الرّوح في فضاء التّأمّل الذّاتيّ، والمحيطيّ، ليبحر في البحث عن الحقيقة.
قد تختلف السّبل إلى الحقيقة، وتتفرّع وتتشعّب الوسائل للوصول إليها، إلّا أنّ الحقيقة واحدة. يتعرّف الإنسان عليها من خلال النّظريّات والآراء، ومخزون الثّقافة الّذي اكتسبه في مسيرة حياته. وأمّا البحث عنها فيتخطّى التّعرّف عليها إلى العمل الفعليّ في التّنقيب عنها عقلياً وروحياً. ويتطلّب هذا العمل الشّاق والمضني، حبّ الذات ثمّ احترام نظرة الآخر دون جعلها هاجساً مستمرّاً، وثقة بالنّفس عالية وأكيدة فيغامر في رحلة البحث الجدّيّ عن الحقيقة.
ولا يعرف الإنسان نفسه إلّا بملامسة الحقيقة ومعايشتها، كما أنّه لا يمكنه معرفتها بشكل مطلق، لأنّ معرفتها اليقينيّة تتخطّى العقل والإرادة الإنسانيّة، وإنّما تعيها البصيرة، وتتعايش معها إلى أن يتحرّر الإنسان من ذاته ويعاين الحقيقة وجها لوجه.
وأمّا الحقيقة فيتمّ تعريفها بحسب خبرة كلّ شخص، وبحسب قدرته على اكتشافها. ومتى لامس الإنسان الحقيقة عرف حقيقة ذاته، إذ هي كمرآة شفّافة تظهر للذّات خفاياها، وهي كنور تضمحل أمامه كلّ ظلمة.