الآن فهمت
د.ماهر أحمد السوسي
أستاذ الفقه المقارن المشارك
بكلية الشريعة والقانون
غزة- فلسطين
كثيرة هي الحقائق التي يعرفها الناس، وما أكثر ما يمرّون عليها مرّ الكرام على أنها من البدهيات المسلم بها، وكثير ما يرسخ في أذهان الناس بعض المصطلحات التي لا يتدبرون معانيها، معتمدين الفهم السطحي لها.
فالكل يقرّ بأن الحياة الزوجية هي شراكة بين الزوجين، شراكة في الأعباء الأسرية، وكذلك الواجبات التي ينبغي أن يقوم بها كل واحد من الزوجين ... ... ولكن يبدو أن مصطلح (الشراكة الزوجية) قد بقيَ مجرد ألفاظ تقال، دونما الغوص في أعماق معانيه، ودونما تدبر الأهداف المتواخاة من هذه الشراكة.
خطرت ببالي هذه الخواطر وقد عدت بالذاكرة لسبب ما إلى الوراء عشرة سنين تقريباً، فقفزت إلى ذهني تلك الضائقة المالية التي كنت أمرّ بها جرّاء الانتفاضة والدراسة وما ترتب عليهما من أعباء مالية عجزت عنها الموارد المالية الواهية التي كنت أعتمد عليها، وكانت حياتنا بسبب ذلك أشبه ما تكون بالذي يعيش في ظلّ قانون الطوارئ، وبناء عليه اضطررنا للتكيف مع ما يدخل علينا من مال قليل، وتحاملنا على أنفسنا بقدر الإمكان وقمنا بترتيب شؤوننا المالية بحسب الأهم أولاً ثم المهم.
في الحقيقة وواقع الأمر كانت هي اللاعب الرئيس في هذا الأمر، بما لديها من صبر وجلد أولاً، ومن رجاحة عقل وحسن تدبير ثانياً، بحيث استطعنا بناء على ذلك القيام بالوفاء بالتزاماتنا المالية المتراكمة علينا للآخرين، وكذلك الوفاء بالتزامات البيت والأسرة التي لا غنى لحياتنا عنها.
ليس سراً أن أقول طعامنا وشرابنا وكسوتنا كانت تخضع لإجراءات غاية في الصرامة، وكذلك زياراتنا العائلية، ومجاملاتنا للآخرين كانت تحسب حساباً دقيقاً بحيث نؤدي منها ما لا بد منه وبما يتناسب مع الإمكانيات المتاحة.
ليس هذا المهم؛ إنما المهم في الأمر - وهذا ما وعيته الآن وأعجب له عندما أتذكره – أنه لا أحد حولنا كان يشعر بما يحيط بنا من شظف العيش، ولا أبالغ إن قلت وهذه حقيقة، أن
الناس كانوا دائماً يعجبون لحسن مظهرنا، وجمال هندامنا، رغم قلة كسوتنا، كما كانوا يمتدحون من أناقة بيتنا وحسن ترتيبه، رغم بساطة أثاثه المتواضع.
هذا هو الواقع الذي شهد به الناس وهم يسحبون أننا أغنياء وذووا إمكانيات مادية جيدة ومريحة؛ والسبب في شعور الناس هذا هو انسجام هذه الشراكة في الحياة الأسرية، وأعني هنا الانسجام في الفكر، والرأي، والقناعة بما قسم الله تعالى، والتسليم بقدره عز وجل، وعلى رأس ذلك كله الإيمان بأننا يجب أن نبني أنفسنا بجهودنا الذاتية، وإمكانياتنا المتواضعة مهما كانت هذه الإمكانيات، وكان الوقود المحرك لذلك كله الصبر، انطلاقاً من أن الأسرة أية أسرة هي صاحبة رسالة، ومن أجل ذلك فـ (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وبعد أن انتبهت من هذه الذكريات عدت إلى يومي الذي أعيشه، وبدأت أقارن ما كان بالأمس، وما هو كائن اليوم، فالإمكانيات المالية والحمد لله ممتازة، أصبح للعائلة بيتها الذي تملكه، وتعلم من تعلم من الأبناء والباقي على الطريق، وتزوج من تزوج منهم وينتظر الآخرون.
بعد هذه التجربة ظهر لي بوضوح وجلاء أن الشراكة الأسرية ليست معنى يقال، ولا شعار يرفع، وإنما هي توافق وانسجام، حب ووئام، حُسْنُ سَمت ورقة طبع، راجحة عقل وحسن تدبير.