السيف
د.ماهر أحمد السوسي
أستاذ الفقه المقارن المشارك
بكلية الشريعة والقانون
غزة- فلسطين
لديك تضخم في اللوزتين، وهذا هو السبب في ارتفاع درجة حرارتك المفاجئ والاحتقان في الحلق، وهو السبب فيما تشعرين به من ضيق في الصدر، قالت لها الطبيبة وهي تنتهي من إجراءات الفحص الطبي، فردت هدى وهي تكاد تجمع قواها، لكن الأمر كان مفاجئاً وبدون مقدمات؟ فقالت الطبيبة: هذا يعني أنك قد تعرضت لموقف قد أسيء لك فيه، سمعت ما أغضبك، هل (زعلك أحد اليوم)؟ فتنهدت هدى وقالت: لا أحد يخلو من ذلك.
غادرت هدى العيادة وهي متعثرت الخطى، وصوت الطبيبة يتردد في مسامعها: (هل زعلك أحد اليوم)، ثم قالت في نفسها وهي تسترجع ذكريات ما قبل هذه الانتكاسة الصحية التي أصيبت بها، ليس اليوم بأفضل من الأمس، ولا الأمس بأفضل مما قبله، كل الأيام متشابهة، أنام على طلاق وأصحو على طلاق، هذا الكابوس الذي لا يفارقني ليل نهار، وهذا السيف المسلط على رقبتي، متى أستطيع التخلص منه؟
استقلت السيارة بعد أن اشترت الدواء من الصيدلية الموجودة أسفل عيادة الطبيبة، وبدلاً من أن تذهب إلى بيتها وجدت نفسها تطلب من السائق، يذهب إلى حيث بيت صديقتها أمينة، دقت جرس الباب، واستقبلتها صديقتها التي تفاجأت من هذه الزيارة غير المعتادة، ومن الصفرة التي تلون بها وجه صديقتها، تفضلي ادخلي، قالت أمينة لصديقتها المنهكة، فدخلت هدى وألقت بنفسها على أول معقد في حجرة الاستقبال.
أحضرت أمينة كأساً من الليمون البارد، فاعتذرت هدى لأن هذا سيضر بها، وطلبت كأساً من الشاي مع شيء من الليمون، ففطنت أمينة أن صديقتها قد أتعبها المرض، وقالت: مالك؟ بماذا تشعرين؟ فردت هدى لا أعرف، أشعر بدوار شديد، وبحيرة جعلتني وكأني في وسط البحر لا أعرف اتجاهي، الطريق أمامي مظلم ... ... لا أستطيع التفكير، ردت أمينة: كنت أظن أنك مريضة، فقالت: المرض أهون مما أنا فيه، فالمرض يزول بالدواء وإن كان مراً، لكني لا أرى لمشكلتي مع زوجي حلاً، ما الأمر؟ قالت أمينة، لقد بدأت أخاف عليك، قالت هدى: منذ أن تزوجت وأنا أعيش في رعب شديد، أنا دائماً خائفة من شيء اسمه الطلاق، إن زوجي يكبلني بالطلاق، يسيء معاملتي، فيشتمني ويضربني، ثم يحلف بالطلاق أنني لو شكوت لأحد فسأكون طالقة منه، يهجرني ويمنعني حقوقي الزوجية، وإذا ما نقشته في ذلك، فإنه يهددني إذا واصلت جداله في هذا الأمر فإنه سيطلقني، أخذ مالي، وأخذ مجوهراتي ومصاغي كله، وعندما أطلبه، يهددني بأنه سيطلقني إن أنا ذكرته بهذا الأمر مجرد تذكير، يقترف المحرمات أمامي، ويهددني بالطلاق لو أنا بحت لأحد بما يفعل، وكان الموقف الأخير اليوم بالصباح، حيث استأذنته لحضور فرح ابنة عمي
فقال تذهبين وتعودين إلى البيت قبل المغرب، فقلت إن مراسم الفرح دائماً تبدأ بعد المغرب، كيف يمكنني أن أشارك في الفرح قبل أن يبدأ، فطاش عقله وجن جنونه، ونظر إليّ بعينين حمراوين قائلاَ (عليّ الطلاق ما تذهبي لهذا الفرح ولا لغيره أبداً) وتركني وخرج.
هكذا هي حياتي، أنا في سجن لا أدري متى يفرج عني منه، ولا أعرف ما هو الحل.
وبعد.
من الواضح أن هذا الزوج قد تجاوز الحدود المشروعة في استخدامه لحقه في الطلاق، وهذا محرم شرعاً، وهو ظلم يعاقب عليه، يقول الله تعالى: (الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، وهذا يعني أن الزوج إما أن يطلق زوجته إذا كان الأمر يستوجب ذلك، أو أنه يبقيها زوجته ويحسن إليها، وإن فعل ذلك فهو مخالف لأمر الله تعالى.
وعند كثير من العلماء فإن الزوج الذي يكثر من الحلف بالطلاق لا طلاق له، ويعتبر ذلك من الغو اليمين، حيث يقول الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)، ولغو اليمين لا حكم له، ولا يؤثر في عقد الزواج.
وأخيراً فإذا قصد الزوج بالفعل الحلف بالطلاق، فإنه ينبغي قبل الحكم أن نتبين نيته، فإن كان قد نوا الطلاق فعلاً فهو طلاق، وإن كان لم ينوٍ الطلاق ولم يخطر ذلك بباله فهو يمين يحتاج فقط إلى كفارة.
ويبقى أن نقول أن الزوجة في مثل هذه الحالة لا ينبغي أن تسمح لزوجها أن يظل متفرداً بها بهذا الشكل، وأن يظل مسلطاً سيف الطلاق على رقبتها بحيث يجعلها طوع أمره كالآلة؛ بل إن عليها أن تخبر بذلك من أهلها أو من أهله من يقف معها في وجه هذا الزوج المتعسف، وأن يجبره على احترام زوجته، أو أن الأمر يعرض على من يقومون بالتحكيم في مثل هذه المسألة، من أجل إجبار الزوج على الرجوع عن غيّه، والله الموفق.