إيران: موقع ودور ..
عقاب يحيى
لم أك يوماً من مدرسة" التفسير البوليسي" للأحداث والتاريخ، ولم أصب بالهوس لدور وثقل العامل الخارجي في إجهاض وهزائم مشاريع النهوض والتوحيد والتحديث، وفي لوحة ما يجري.. بما في ذلك التقسيمات التي فرضت علينا من قبل "سايكس وبيكو" وخلالها، وتداعياتها ..لأنني مقتنع أن العامل الذاتي هو الأساس والمنطلق والحاضن.. وأن مستوى الجهل، وضعف الوعي، والطبيعة الهشة للقوى السياسية : المثقفة وفي الطبقة الوسطى، وتلك التي صعدت إلى الحكم.. إنما تشكل الركيزة الأولى في جميع النتائج التي وصلنا إليها، بما فيها توفير مناخات تسرب وتغلغل وانتصار الأدوار الخارجية ومشاريعها.. تماماً كحال الثورة السورية التي نهضت بإرادة ذاتية، ولغايات عامة.. ثم ما ركب فيها وعليها من عوامل بنيوية هي اليوم إشكاليتها البارزة.. المتضافرة مع وقع ودور العوامل الخارجية .
*****
في سنوات البحث عن التركيبات التاريخية، ومحاولة فهم بعض آليات واسرار ديمومة العمل اليهودي المنظم في طيات التاريخ، وصولاً إلى الصهيونية، وجملة أكوام المعلومات الحقيقية والمبالغ فيها عن الماسونية وقدراتها الخارقة، واختراقها للعالم في نخاعه الشوكي واقتصاده، وابرز وجوهه.. كان من المهم قراءة المسار التاريخي للعلاقة اليهودية ـ الإيرانية من أيام الامبراطورية الفارسية وحتى يومنا هذا.. بعيداً عن الشعارات المرفوعة، وترسانة التعبئة الإعلامية، والتسويق التكتيكي ..
ـ لقد كانت الأقليات ـ على مسار التاريخ ـ بحاجة غلى حافز داخلي يجعلها متماسكة، ويبرر تجمعها، وعزلة بعضها، والمحافظة على منظوماتها الثقافية، اللغوية، النمطية، وصولاً لدور تأمل ممارسته عبر اشكال من التنظيم السري المغطى بالمغاير من المقولات والستائر.. وكانت الحركة اليهودية هي الأب الروحي، والأكثر حاجة، ثم مقدرة على ذلك. ولأجل تحقيق أهدافها تحلّقت حول التخويف من آخر موجود فعلاً، يجري تضخيم افعاله، او مفترض، ومختلق، مما شكل الأرض الخصبة لولادة البعبع الذي يقابله : الحليف . الصديق ..والذي يجري تناقله عبر التاريخ، بغض النظر عن مستويات الوعي، والحداثة، وما تبدو عليه الحركة الصهيونية من عصرنة، وتفتح.. وابتعاد عن التديّن احياناً، والعلمانية حتى الملحدة، أو غير المؤمنة أحايين كثيرة ..
ـ في هذه الوضعية نلاحظ المفصل التاريخي الذي يستحق الوقوف عنده : قصة السبي البابلي وتدمير مملكة" اورشيم" من قبل العراقيين البابليين.. وما حدث إثره، وما يحكى عن كتابة التوراة المتداول هناك، وعلى وقع الأسر وآثاره، وابتداع أقنمة نسب اليهودي لأمه وليس لأبيه كحل لواقعي، ورداً على الانسحاق والفناء.. ثم دور قورش الحاكم الفارسي في تدمير بابل، وإعادة اسرى اليهود.. والذي يقال أن أمه يهودية..
ـ حكاية البابليين.. والفرس لم تغلق صفحاتها عند ذلك التاريخ الموغل، والذي كان جزءاً من حركية عامة لعديد شعوب المنطقة، وغزاتها..وامبراطورياتها، وحداثها، بل إن صنّاع البعبع نجحوا في إثارتها وجعلها جزءاً من منظومة التعبئة والحشد على مدى أحقاب التاريخ، واستثمارها سياسياً.. فظل العراق يمثل في المخيال الوعيوي ذلك النبوخذ نصر، يقابله قورش المنقذ، الرحيم ..وهو ما أسفر، في العصر الحديث، عن انبثاق سياسيات ومخططات استهدفت العراق بشكل شبه دائم، واقامة أوطد العلاقات مع حكام إيران : الشاه، ومن بعده : جمهورية إيران الإسلامية .
ـ في عصر الانقسام الدولي بين المعسكرين.. كانت هناك قوى إقليمية ثلاث تشكل نقاط ارتكاز حلف الأطلسي والدول الغربية : تركيا وإيران وإسرائيل، وكان الوطن العربي عموماً، ومشرقه على وجه الخصوص ساحة الاستهداف الرئيس... وقد لعبت هذه الجهات أدواراً كبيرة في عموم أحداث وتطورات المنطقة.. وتخصص بعضها بركن معين عبر التنسيق الإقليمي والعالمي لإجهاض عمليات التوحيد والنهوض العربيين، وكسر محاولات إنجاز استقلال حقيقي..وكانت العلاقات الأمنية على مستوى شامل.. كما وأن اللوبي اليهودي، والصهيوني هو في إيران من أقوى اللوبيات وأشدها فاعلية ..
ـ لقد فضحت سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية مستوى التحالف بين حكام إيران وإسرائيل، ولم تكن صفقة ـ فضيحة إيران غيت ـ سوى صفحة من ملف كبير.. وجاءت الأحداث التالية لتلقي المزيد من الضوء على طبيعة تلك العلاقة، ونظرة، وموقف الإدارة الأمريكية من الوضع الإيراني، وما يعرف بملفها النووي وما عرفه من مماطلات.. ومطمطمات ما كان لها أن تكون لو كان هذا المشروع بحدوده الدنيا، في بلد عربي..
ـ وكانت تلك العلاقة بأوضح ترجماتها في أفغانستان، ثم في العراق الذي سلموه علانية للنفوذ الإيراني بكل ما يتناقض مع الشعارات المرفوعة، وبما يفتح قوس الاستراتيجية العالمية وموقع إيران فيها، أو نظرة أصحاب تلك الاستراتيجية لدور إيران القادم وحصتها.
ـ على ضوء هذه المعطيات يجب أن ننظر إلى الاتفاق الروسي الأمريكي وإدخال إيران طرفاً، وشريكاً بينما جرى إبعاد الدول الخليجية، ونسبياً تركيا، وبما يعيدنا إلى القصة التاريخية، مطعّمة بآخر طبعات الخط الاستراتيجي القائم على مزيد من التقسيم العمودي في المنطقة، وما لإيران من دور مباشر، او من حيث النتيجة فيه، وما سيرتبه ذلك من حقائق لاحقة قد تكون سايكس ـ بيكو صورة مُحدثة عنه .
ـ هذه الوقائع تفرض على الوطنية السورية مناقشة التطورات بمنظور أعمق من حالة التشنج، أو الاستعداء الفظي، أو اعتبار إيران عدوا على الطالع والنازل دون اعتبار لحواملها وتراكب الديني ـ المذهبي بالقومي، وانعكاسه في المجتمعات العربية، وسياسة التطويف التي تستلزم مواجهات وطنية جامعة، وليس الانزلاق غلى ما يُراد الغطس فيه من حرب مذهبية مطحنة، فهي دولة إقليمية تريد أن تكون لها حصتها، ولديها مشروعها، بينما يغيب العرب عن أي مشروع، ويزدادون هامشية وتفتيتاً..والمعارضة السورية في موقع المتلقي، والمشتت، والثورة تعاني الكثير من الإشكالات التي تحتاج المواجهة، والبحث عن سبل العلاج والدعم.. وعن استنباط وسائل الاعتماد على النفس، وصيانة القرار الوطني .
ـ كما وعلينا قراءة ما يجري وانعكاسه على الثورة السورية، ومستقبل بلادنا.. خاصة لجهة محاولة فرض نمطية من الاستمرارية للنظام المجرم، أو توابعه، مع خليطة من معارضة "مرنة"، وعقلانية والدخول في متاهات المفاوضات، والمراهنات على الوقت.. بينما ستجوب فرق التفتيش بلادنا، وستنخر ما تريد، ثم تقرر ما يتوافق مع مخططاتها ومصالحها..