لا تُحَدِّث أحداً عن جمالها!
صلاح حسن رشيد /مصر
ماذا يكون حالك- يا صديقي- وأنت أمام آيةٍ من آيات الخالق العظيم في الجمال، والجلال، والوقار، وعلو الفكر، وتوقُّد القريحة، والفطنة التي ما بعدها فطنة؟!
وماذا يكون مآلك- يا صاحبي- عندما تطلع عليك مَن ليست من جنس البشر؟! فهل تقوى على النظر، والكلام؟! وهل تكون- ساعتئذٍ- في حالتك الطبيعية؛ فتقوى على الوصف، والفكر؟!
أم، تفرُّ منها، وتُطلِقُ لنفسك ريحَ الهزيمة أمام سلطان بريقها الأخّاذ، وسطوة جاذبيتها الفريدة؟!
وهل فكَّرت في أنَّك في هذه الحالة، تكون بلا تفكيرٍ، ولا قدرةَ على الفهم؟!
وهل مكثتَ- يا صاحِ- في بيتك شهراً، تُعالَجُ من آثار رؤيتها! ومن جرّاء، نورها الذي شعّت أقباسه؛ فملأت الدنيا صفاءً، وبهجةً، وبركة، وخلقاً؟!
وهل فقدتَ القدرة على الكلام، والإشارة؟! وهل فقدتَ شهية الطعام، والشراب؟! وهل أُصِبتَ بمرض العزلة، والخلوة؛ فعِفتَ البَشر، والحجر؟! فأنتَ لا تراها إلاَّ لتراها! وأنتَ لا تعشقها إلاَّ لتعشقها! وأنتَ روحها، التي روحكَ تهواها!
وهل أصبحتَ في منزلةٍ بين المنزلتَين: منزلة الإنسان؛ فأنتَ خارجٌ عن نطاق الإنس؟!
ومنزلة الملَك؛ فأنتَ تحمل جينات الملائكة، وصفاتهم، مع صفات الحيوان في البريَّة؟!
وهل أصابتك أضواؤها، وعوالمها المتَّقيَّة؟! فأنتَ في النهار من المُقرَّبين! وأنتَ في الليل شيطانٌ مريد؟!
وهل فقدتَ القدرة على النوم؟! فأنتَ في ديمومة الوصال، لا سِنَةٌ لكَ، ولا شهية إلى الراحة؟! فيكفي أنَّكَ تنازلتَ طائعاً عن نومك، وراحتك، وسكينتك؛ ليُضاف كلُّ ذلك إلى رصيدها من الراحة؛ فلا هي تشقى! بل، (لا تجوع فيها ولا تعرى)! بل، هي(لا تظمأ فيها، ولا تضحى)! بل، لا تفزعُ ولا تخشى!
بل، هي في نومها الهنئ، وفي سعادتها الأبدية، وفي خلودها السرمدي .. السرُّ الذي عرفه صاحبنا بقلبه؛ ففقد عقله، وقلبه، وجسده، ونومه، وهناءه، وسعده!
فقد اطَّلعَ صاحبنا- على غير اختيارٍ منه- على الكمال الأنثوي، والجلال العبقري؛ فتاه عقله، وشاه وجهه، وعاف نومه، وخاف قومه، وسها فكره!
فقد برزت أمامه طوالع الألق الجميل، والنور المبين، والحق اليقين! فانعكستْ على صفحة فؤاده الضعيف؛ فاهتزَّ كيانه، وترنَّحتْ أركانه، وتزلزلت أعضاؤه، وتبركنتْ أشعاره، وترضرضت أقاصيصه، وتفجَّعتْ أفكاره! فلا هو بالحي، وهو بالميِّت! بل، هو وسطٌ بينهما! بل، صار في أواخر حياته، ميْتاً، لم يطلبه قبره!
وعندما حان حِينه؛ ظنَّ أهلُ الحُبِّ أنها ستحزن بموته؛ فذهبت البشرية- من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب- من لدن آدم حتى قيام القيامة؛ لتطلبَ شفاعتها في صاحبنا الموجوع!
فأخذت تستشفع البشريةُ تحت شُرفة بيتها؛ بأشعار المجنون، والمخبول، والمُخَبَّل، وعروة المطرود، وعنترة المظلوم، والمتنبي المقتول، والحلاج المصلوب، والسهروردي المطعون، وابن الفارض السلطان العشيق، والبوصيري إمام المُحبِّين، و شوقي المنفيّ، وحافظ الموجوع، ونزار المفتون! فلم يُشفع لها! ولم يؤذن لها بالكلام!
فارتدَّت البشريةُ إليه؛ فوجدته يُزَفزِفُ، ويَخْرِفُ! فلا كلامٌ، ولا سمعٌ، ولا بصرٌ، ولا رؤية، ولا رؤى!
فرجعت إليها، وتحت بيتها، تُنشدها أشعاره، وأقاصيصه عنها، ونبضَ قلبه المفتون بها! فلم يُفْتَحْ لهم الباب! ولم يؤذنْ له، ولهم بالاعتذار!
فعادت قوافل البَشر، تلو البَشر، تزوره، وهي تبكي، وتطوف به طواف الشفقةِ والمحبة! فكل مولودٍ يراه يموت في الحال! وكل مريضٍ تراه عينه؛ يُفيق في الحال!
وساءت حالته؛ فاغتمَّت البشريةُ!، فزاد غمُّها! فماذا بمقدورها أن تفعل من أجل إنقاذه؟!
فأجمعت أمرها، فعزمتْ على الجلوس تحت بيتها، والقيام بالبكاء بصوتٍ واحدٍ، وعلى أنغام أحزانه، وأشعاره؛ حتى ترفُقَ هي بصاحبنا المسكين، أو تقوم القيامة!
وبعد آلاف السنين، وما أصاب البشرية من النَّصَب والتعب!
فُتِحَتْ طاقةٌ صغيرةٌ من كُوَّةٍ لا تُرى في بابها!
فخرجت ورقةٌ صغيرة، لا تراها العينُ، مكتوبٌ فيها، بخطٍّ جميلٍ، ليس من لغات البشر! فحارت البشرية في قراءته؛ فلم تقدر أنْ تفُكَّ شفرته!
فلمّا أحسوا بعجزهم، وأجمعوا أمرهم على الفشل .. سمعوا صوتاً لجاريةٍ، هي جاريةُ جارية جارية جارية(المي)! تقول: اذهبوا بالورقة إليه؛ فهو العليمُ بها، وبحروفها، وخلجاتها، وهسهساتها، ووشوشاتها، وزقزقاتها!
فلمّا وصلت البشريةُ ضاحكةً مستبشرةً؛ وجدتْ صاحبنا، وقد احترق جسمه، وبقيتْ روحه! فرأتها البشرية، وهي تُرفرفُ، وحروف الورقة .. قد تحوَّلتْ إلى أنوارٍ من الأنوار غير الأنوار التي نعرفها! عليها صورة(الميّ) وبداخلها صورة صاحبنا!
فرجعوا إلى بيت(المي) فوجدوها تقف في شرفتها الوردية، وعليها أنهار العرفان، وهي باسمةٌ .. بسمةً لم يروها من قبل، وهي تقول: دعوا صاحبكم! فقد غُفِرَ ذنبه! ووصلتْ روحه! واحترقتْ نفسه! فارحموا قلبه! فهل أفادكم أمره، بعد زوال ملكه، وفوران قبره؟! فأنا ما رأيته! بل، ما تصوَّرته! فهو نابشٌ حتفه! وهو عارفٌ قدره! وهو عاشقٌ موته! فلا تفعلوا فعله! وارحموا عزيزَ حُبٍّ .. عاجله قدره! فلم يرحمْ حُبَّه! ولم يرحمْ مُحِبَّه!
فجاشت البشريةُ بالبكاء! وخشعت الأصواتُ لماء السماء!
وعلى قبره، نبتَ عُشْبٌ أشقر، مُخْضَوضر، دبَّ فيه بريقُ الملائك! يزهو بروائح(الميّ) وريحانها الفردوسي!
فتعلَّقت البشريةُ به؛ فلم ترضَ سواه بديلاً! فعاشت بجانب القبر في سعادةٍ إيمانيةٍ، وضراعةٍ قدسيةٍ!
واعتزلت الحياةَ، وتركتها؛ لتهنأ بها عوالمُ الحيوان، بعيداً عن جشع الإنسان!