توسع الكون إلى اللانهاية
د. خالص جلبي
يبدو أن مستقبل الكون حُسم كما يقول الفيزيائي الألماني (جيرهارد بورنر Gerhard Boerner) فهو بدأ رحلته قبل 15 مليار سنة ولكنه يتمدد إلى اللانهاية وبتسارع يخطف الأبصار. وقام كل من (فرد آدامز Fred Adams) و(جريج لاوفلين Greg Laughlin) الأمريكيان من خلال حسابات مستفيضة بوضع سيناريو احتضار الكون في كتابهما (العصر الخامس للكون ـ فيزياء إلى الأبد). قال الرجلان إن 15 مليار من السنين ليست شيئاً مذكورا نسبة لامتداد الزمن الذي سوف يسحب مائة ألف مليار سنة جديدة. وبانتقال الكون من عصر إلى عصر سوف يتبدل محتوى وشكل الكون على نحو درامي بما يشبه الطفرة في علم البيولوجيا. حيث تطمس النجوم وتتكور إلى كرات زجاجية من بللورات الهيدرجين. في الوقت الذي تقبع ثقوب سوداء تلتهم بقية العالم. وتدور ذرات هائمة على وجهها الواحدة منها بقدر كل الكون الذي نعيش فيه. هكذا يقول الفيزيائيون.
وتنقل مجلة در شبيجل الألمانية في مطلع عام 2002م أن هذه المعلومات لم تتأكد إلا منذ فترة أشهر قليلة بواسطة بالونات اختبار أرسلت من صقيع القطب الجنوبي حيث حلقت حتى طبقة (الستراتوسفير) وقامت هناك بدراسة هي الأولى من نوعها لأشعة الكون الخلفية (Backgroundray).
وهذه تحتاج لشرح؟ ما هي؟ وما دلالتها؟ ومن اكتشفها؟
من خلال معادلات النسبية (لآينشتاين) والرياضيات التي اشتغل عليها الروسي (الكسندر فريدمان) وتحليلات (جورج غاموف) عام 1948م وكشف (ادوين هابل) الفلكي الأمريكي من مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا بواسطة طيف اللون توصل العلماء إلى ثلاث حقائق مثيرة: (أولاً) إن النظام الشمسي الذي نعيش فيه ومنه الكرة الأرضية التي يتقاتل على ظهرها الناس ليست سوى ذرة غبار تافهة في ملكوت يضم مائة ألف مليون مجرة، في كل مجرة مائة مليار نظام شمسي.
(ثانياً) إن هذا العالم الذي ننتمي إليه ليس أزلياً ليس له بداية، بل ابتدأ من نقطة متفردة في ولادة تعتبر لغزاً لا يصدقه خيال أكبر الحالمين. فالفيزيائيون يقولون إن كل الكون كان مضغوطاً في حيز أقل من بروتون واحد، في طاقة لانهائية، حيث تنهار قوانين الفيزياء كلها، فلا مكان .. ولا زمان .. ولا مادة .. ثم انفجر الكون في جزء من مائة ألف من مليار مليار مليار مليار من الثانية. وخلال جزء من مليار من الثانية تمدد الكون فتشكل المكان وابتدأ الزمان وعملت القوانين وتبلورت المادة وتشكلت كل المجرات التي نعرفها. ويشبه هذا التوقف تمثال الشمع الذي دبت فيه الحركة فجأة بفارق أنه لم يكن تمثال بل كون ولد من العدم. أو لنقل بتعبير الدين (الخلق) بعد أن لم يكن موجودا. وإنما أمره لشيء أن يقول له كن فيكون. وهي نظرية تبنتها الكنيسة بسرعة وبحماس كما صرح بذلك (ويليام ستوجر) الفلكي في الفاتيكان. والدين تأتيه الأدلة هذه المرة من أحدث المراكز العلمية.
إن هذه الحقيقة كانت ستزلزل مفاصل فلاسفة أثينا وابن رشد عن قدم العالم أنه ليس قديما بحال. وحل هذه المعضلة الفلسفية لم يأت على يد فيلسوف بل جاء من الفيزياء الكونية.
حدث هذا الانفجار من نقطة رياضية بحرارة تفوق كل وصف سماها (ستيفن هوكنج) الفلكي البريطاني في كتابه (قصة قصيرة للزمن) أنها حقبة متفردة لا تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية المعروفة (Singularity). وبالمناسبة فإن هذا الفلكي مصاب بشلل رباعي ويتنفس من ثقب في الرغامى ويتكلم بكمبيوتر مربوط إلى رقبته مثل الروبوت بسبب مرض عضلي متقدم.
هذا الانفجار الذي لا نظير له والذي يشبه قنبلة عنقودية في كل الاتجاهات كما يسميها الفلكي البلجيكي (لو ميتر) يشبه البركان الذي طوح في كل أرجاء الكون مخلفاً وراءه حرارة تناقصت تدريجياً وهي الدليل على نظرية الانفجار العظيم (Big Bang).
في عام 1964م كان كلاً من (آرنو بنزياس) و (روبرت ويسلون) من شركة بيل يشتغلان على هوائي عملاق قطره سبعة أمتار لالتقاط الأمواج اللاسلكية الضعيفة فلفت نظرهما موجات قادمة بانتظام من كل أرجاء الكون. كانت ثابتة ومن كل الاتجاهات وبنفس الكثافة وبحرارة بلغت ثلاث درجات فوق الصفر المطلق. ومن خلال التعاون مع (ب . ج . بيبلز) من جامعة برنستون وضعا أيديهما على أروع اكتشافات القرن ونالا عليه جائزة نوبل عام 1978 م. كان البث هو بقايا الإشعاع من الانفجار العظيم.
(ثالثاً): إن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس في وضع ثابت بل يتمدد بدون توقف مثل القربة التي تنفخها قوة مجهولة بدون كلل وملل. وبذلك انقلبت صورة العالم فيما يشبه ثورة كوبرنيكوس ثانية. فلم تعد الكرة الأرضية أو النظام الشمسي أو حتى مجرتنا درب التبانة في مكانها، بل تحولنا إلى نقط على ظهر بالونة تتباعد عن بعضها وبتسارع، فكلما تباعدنا أكثر ازدادت سرعة التوسع وكل في فلك يسبحون.
واليوم وبواسطة البالونات التي ترتفع عشرات الكيلومترات في الملكوت الأعلى أصبح بالإمكان رؤية الكون ودراسة الإشعاع الأساسي الخلفي للكون على صورة نقية بما لا يقارن مع الطرق القديمة، وقد حصل العلماء على أرقام دقيقة جداً للغبار الكوني وكمية الإشعاع ومقدار التوسع وكانت النتيجة بحجم الصدمة للكثيرين. ويرى (ماتياس بارتلمان Mathias Bartelman) من معهد (جارشنج Garching) الألماني للفيزياء الكونية أن هذه القياسات أعطتنا فكرة عن كثافة المادة ومقدار تحدب الكون. ونتيجة الدراسات ثبتت أمور هامة: (أولا)ً أن الكون ليس فيه كمية كافية من المادة كما كان يعتقد. (ثانياً) أمكن وبواسطة كثافة المادة معرفة مصير الكون إلى أين يمضي؟ هل سيعاني في النهاية من انكماش عظيم مقابل الانفجار العظيم الذي بدأه. أو أن الكون سوف يمتد إلى اللانهاية؟
والنتيجة التي حملتها قياسات البالونات من طبقة الاستراتوسفير كما يقول (بارتلمان) أن الكون أخف بكثير مما كنا نظن، وكمية المادة أقل من المتوقع. وعند هذه النقطة نواجه إشكالية جديدة فالحسابات القديمة للكون وكمية الجاذبية توحي بوجود مادة أكثر مما كشفت عنه البالونات وهو يعني وجود مادة غير مرئية. وبذلك وصل العلماء إلى شيء جديد في المادة اسمه (المادة المظلمة) وهي تشكل معظم كتلة الكون وتزيد عن 90% من بنائه وتشكل عموده الفقري وهي التي تمسك السموات والأرض أن تزولا. وهذا يعني أن كل ما يلمع فوق رؤوسنا في الليلة الصافية لا تزيد عن القشطة التي توضع فوق طبق الكاتو. وبذلك كشف العلماء عن ثلاث أنواع من المادة: المادة التي تشكل أجسامنا. ومضاد المادة مقلوبة الشحنة ومن المفروض أن تكون موزعة بالتعادل مع المادة العادية. ولكن اجتماعها مع المادة العادية يفضي إلى انفجار مروع وتحرر خرافي للطاقة ودمار كامل لكليهما. والثالثة (المادة المعتمة) التي احتار العلماء في تصنيف طبيعتها الغريبة.
ومع اكتشاف المادة المعتمة غير المرئية برز السؤال مرة أخرى هل تكفي مع المادة المرئية لفرملة التوسع وإيقاف التمدد؟ والجواب : لا. وما اكتشف كان العكس أن هناك قوى (مضادة للجاذبية) تعمل على توسع الكون إلى مداه الأقصى هي أقوى من الجاذبية بمرتين. وكان هذا الكشف مفاجأة قلبت التصورات حول طبيعة القوى المتغلغلة في تضاعيف الكون. وبذلك فقد حسم مصير الكون أنه ماض في التوسع بدون نهاية سوى الموت الذي سينهش كل شيء فيه فإذا النجوم طمست والذرات تحللت في كون بارد موحش ميت. ويبق وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
في مثل هذه التحديات الكونية يسقط أعظم العباقرة بأفدح الأخطاء وهكذا بدا التشقق يظهر على النسبية. فآينشتاين اعتبر نفسه (حمارا) على حد تعبيره حينما لجم معادلاته في توسع الكون. ويرى العلماء أن تمدد الكون كان أسرع من الضوء في اللحظات الأولى من تشكله. ويأتي الفيزيائي (نيميتس) من (كولن) في ألمانيا ليقول انه حقق ما هو أسرع من الضوء بخمس مرات مما يهدم حجر الزاوية في النسبية التي تقول ليس هناك من ثابت.