القصة الكاملة لاستعصاء صيدنايا - الجزء الرابع
القصة الكاملة لاستعصاء صيدنايا - الجزء الرابع*
مسار للتقارير والدراسات - 4 آب 2013
بحلول الشهر العاشر من عام 2008 أي بعد مضي حوالي شهرين ونصف واستكمال صيانة الطابق الأول من خلال تصفيح الجدران بالحديد تجنباً لحفر الجدران في المستقبل، طالب مدير السجن المعتقلين بالنزول إلى الطابق الأول ليبدأ بصيانة الطابقين العلويين، ولكن السجناء الذين علموا بتصفيح الجدران رفضوا النزول وعبروا عن عدم أمنهم غدر الشرطة بهم، وبخاصة أنهم كانوا قد تعرضوا لعدوان هذه الشرطة في بداية الأحداث ولم يفلتوا منها إلا عبر حفر الجدران ونزع الأبواب، فاقترح عليهم محفوض إرسال لجنة تطلع على أجنحة الطابق الأول بشكل سريع لترجع إلى السجناء وتخبرهم بواقع الحال، وهذا ما حدث بالفعل، ولفتت اللجنة انتباه السجناء إلى أن جميع الأدوات المعدنية التي كانت المهاجع تشتمل عليها قد استبدلت بأدوات مشابهة بلاستيكية، مثل صنابير المياه وحتى التدفئة المركزية (الشوفاجات) تمت إزالتها مع أنابيبها تماماً والاستعاضة عنها بنظام تكييف هوائي لم يعمل إلا بعد شهور، وهذا عقد الأمر كثيراً ورفض السجناء مرة أخرى النزول، فعرض عليهم أن ينتقلوا إلى سجن عدرا مؤقتاً فاستجاب عدد لا بأس به منهم، وتم نقلهم إلى سجن عدرا المركزي بالفعل بعد أن تم إفراغ الجناحين الثالث عشر والرابع عشر في سجن عدرا لاستقبال سجناء صيدنايا، وأما من تبقى من السجناء في صيدنايا وهم مئات فكان رد محفوض على رفضهم باستبدال المعاملة الحسنة التي حظوا بها منذ أن تسلم منصب الإدارة بمعاملة سيئة بدأت بقطع الكهرباء والماء بصورة متقطعة، وتأخير إحضار وجبات الطعام عن ساعته المعتادة، ثم ازدادات سوءاً ما أدى إلى تسليم بعض السجناء أنفسهم للشرطة أفراداً أو في مجموعات صغيرة، حتى انقطع الماء بشكل نهائي والكهرباء ثم تبعهما الطعام نهائياً.
في ظل أجواء الفقر والحاجة المدقعة حاول السجناء أن ينظموا عملية الخبز من كميات الطحين التي توفرت لديهم، وتوزيع الخبز على الجميع بالتساوي، بحيث يكون نصيب كل سجين رغيف واحد، واستعانوا على ذلك بحرق الثياب والنعال البلاستيكية كما استعانوا بهذه المواد أيضاُ لأغراض الإضاءة، وكانوا يتنظرون هطول الأمطار ليقوموا على إثره بحيازة المياه المتجمعة وتنقيتها بوسائل بدائية وتخزينها لاستهلاكها تدريجياً وبحدود معينة.
وفي مزيد من ممارسة الضغط والتضييق الدموي على السجناء لتسليم أنفسهم قامت قوات الجيش التي تحاصر مبنى السجن بجلب رافعات عليها قناصة محترفين من عدة جهات، قام هؤلاء الجنود بقنص السجناء عبر الحفر المنتشرة على امتداد الجدران تارة، وباستخدام طلقات نارية خارقة أصابت البعض بعد اختراقها لتلك الجدران تارة أخرى، ما أدى إلى مقتل ما يزيد على 17 شخصاُ وذلك على مدى أيام عاش السجناء بسببها أسوأ حالات الخوف والذعر.
وانتهت هذه الحال التي استمرت لما يقارب الشهرين بنفاد كميات الطحين وانعدام المياه تقريباً، ما حمل غالبية السجناء على الاقتناع النهائي بضرورة الاستسلام حفاظاً على ما تبقى من رمق الحياة، فقامت الشرطة العسكرية في السجن بإنزالهم إلى معسكر من الخيام التي نصبت في باحات السجن ليبيت فيها المستسلمون، وتم نقلهم في اليوم التالي بالفعل وتفريقهم إلى عدة جهات، (سجن عدرا، الفروع الأمنية كافة، سرية المداهمة).
لم يتبق بعد استسلام القسم الأكبر سوى عشرات، قيل إنهم ثلاثون معتقلاُ، آثروا البقاء والتصدي لأي هجوم محتمل على السجن من قبل القوات العسكرية، ولم يكن بحوزتهم سوى بعض الأسلحة البيضاء، وهذا ما حدث بالفعل يوم السادس عشر من شهر كانون الأول لعام 2008 بقيادة ماهر الأسد حيث قامت القوات الخاصة بإغراق مبنى السجن بالقنابل المسيلة للدموع منذ الصباح الباكر، تبع ذلك إنزال مظلي على سطح السجن واقتحامه من عدة جهات، قتل خلاله أغلب من تبقى من مجموعة الثلاثين وأصيب البقية إصابات خطيرة، وانتهى الأمر بعد أيام بإعادة السجناء الذين تم نقلهم على دفعات في الشهور الماضية إلى سجن صيدنايا ليمكثوا في الطابق الأول، وفي اليوم التالي لوصولهم حضر رئيس أركان الجيش علي حبيب وألقى ما سمي بـ "خطاب النصر" على جميع نزلاء السجن من سجناء مدنيين وعسكريين وحرس وشرطة عسكرية، وهكذا تم إعلان السيطرة على السجن نهائياً مع حلول رأس العام.
واحتفظت الفروع الأمنية بعدد من السجناء الذين تم تصنيفهم على أنهم "رؤوس التحريض والتمرد" وبلغ عدد هؤلاء حوالي 450 بغرض التحقيق معهم تمهيداً لتقديمهم لمحكمة أمن الدولة بتهم إثارة الشغب وارتكاب أعمال تخريبية والقتل وما سوى ذلك، وهذا ما حدث بعد عامين من التحقيق، وتواترت الأنباء حول الحكم على أبي حذيفة الأردني أحد أبرز قادة السلفية في السجن بالإعدام بتهمة القتل، ولم يتم التأكد من حدوث الإعدام بعد.
يذكر بأنه تم بعدئذ حرمان السجناء من جميع ميزاتهم التي كانوا معتادين عليها قبل 5/7 فليس للسجين في صيدنايا سوى 4 بطانيات قديمة، وتم منع الزيارات، كما لم يفتتح السجن أبوابه للسجناء الجدد إلا أواخر شهر حزيران 2009 حيث وصلوا على دفعات، ولم يتم خلطهم بالقدماء، بل نزلوا في المبنىى العسكري وبقي المبنى الآخر حيث وقعت أحداث الاستعصاء محصوراُ عليهم ليتموا عقوبتهم التي تمتد لـ 5 سنوات، ولكن أعمال الصيانة للطابقين العلويين استمرت حتى بات الطابق الثاني جاهزاً أواخر عام 2010 وبعده بشهور قليلة أصبح الطابق الثالث والأخير جاهزاً أيضاُ، ما دفع إدارة السجن لاستقبال المعتقلين الجدد في هذين الطابقين منفصلين عن القدماء. وكانت آخر دفعة معتقلين وصلت إلى صيدنايا تشتمل على الذين احتفظت بهم الفروع الأمنية بصفتهم "قادة الاستعصاء" وذلك مطلع العام 2011 أي قبل اندلاع الثورة السورية بشهرين تقريباً، واستمرت محكمة أمن الدولة في محاكمة جميع أفراد السجن القدماء والحكم على بعضهم بأحكام تراوحت بين عامين والإعدام.
وأغلق ملف صيدنايا مع صدور قانون العفو العام لعام 2011 بتاريخ 31 أيار الذي صدر على خلفية محاولات تطويق الثورة الوليدة، والذي تبع رفع حالة الطوارئ التي اقتضت إحالة جميع السجناء والمعتقلين إلى السجون المدنية وعرضهم على محكمة الجنايات المدنية، فنتج عن ذلك ترحيل جميع سجناء صيدنايا المدنيين ممن لم يشملهم العفو إلى سجون المحافظات المدنية.
وأكد سجناء من داخل السجن أفرج عنهم لاحقاً بأن حصيلة القتلى في المجازر الثلاثة التي ارتكبتها قوات النظام بحقهم تجاوزت المئة قتيل.