فرسان الضمير وتغريداتهم المذهلة
هيفاء زنكنة
لاتزال جلسات محاكمة الجندي الامريكي برادلي مانينغ مستمرة، مواجها 14 تهمة، وعقوبة السجن مدى الحياة. في جلسة محاكمته الاخيرة، تحدث محامي دفاع مانينغ عن صدمته وهو يرى كيف ساهمت القوات الامريكية باعتقال 14 مواطنا عراقيا لا لشيء غير توزيعهم منشورات عن الاحتلال، مكتوبة بلغة أكاديمية. وكيف ان احد اسباب تسريبه سجلات الجيش الامريكي كان احساسه بالظلم الذي لحق الآخرين ورغبته بتسليط الضوء على سياسة امريكا الخارجية. ازاء صمت الكثير من المثقفين العراقيين أو تلونهم الحربائي، كيف يمكن فهم موقف الجندي ماننغ وهو من قوات الاحتلال؟
لكل عصر فرسانه. الفرسان الذين اشير اليهم بلا جياد. أنهم، خلافا للتعريف التقليدي، غير ماهرين في ركوب الخيل وان كانوا يتميزون بما ارتبط بمفردة الفارس، تاريخيا، من صفات الشجاعة والأقدام والمروءة. الفارس هنا شَّخصُ فرَس الأمرَ أي صار ذا رأيٍ وعلم ببواطن الأمور وعُدَّة قتاله حديثة، لاتزال تحبو في عالم جديد، يحمل في ثناياه بعض ملامح الفروسية القديمة من قيم نبيلة قبل ان تختزل الى حدث مهرجاني او ميدالية تقتصر على سباقات الاغنياء والامراء.
في عصر الفيسبوك والرسائل الالكترونية والهاتفية والتغريدات، حيث تشهد البلدان العربية تدهورا كبيرا في نوعية التعليم، ويظن ثلث اطفال بريطانيا ان الجبنة تنمو على الشجر وان المعكرونة مصنوعة من اللحم، ما الذي تبقى من معاني الفروسية ؟
أخبرني الروائي العراقي محمود سعيد (من مؤلفاته زنقة بركة) انه يعتبر ادوارد سنودن، الموظف السابق لدى الاستخبارات الأمريكية، بطلا. مما يرتبط بمعنى الفروسية كما درسناها ورسخت في اذهاننا منذ الطفولة أدبا وشعرا. مما يعني ان بطولة وفروسية هذا العصر لاتزال تحمل في ثناياها النبل والقيم والمبادىء . غير انها، في الوقت نفسه، فروسية حديثة. انها مشاعة للجميع ولا تقتصر على النخبة. انها فعل غير رومانسي لأنه يحمل في داخله امكانية الحدوث نتيجة مبادرة شخصية في لحظة وعي عال، ولا تقتصر على قومية معينة او دين او طائفة. انها، ايضا، وبقليل من الانفتاح الذهني، فروسية المواطن العالمي المتجاوز للحدود المحلية، الطامع في ان يصبح العالم وطنه والبشرية شعبه. وهذا ما حاولت الشيوعية في فكرها وتطبيقاتها، ولو لفترة وجيزة، غرزه في النفوس باسم الأممية ( وهو المفهوم الاقرب الى المواطنة العالمية حينها) والتماهي مع كفاح الشعوب، اينما كانت، قبل ان تنغمر بذات الآفات الامبريالية التي ارادت مكافحتها، ويصبح بعض قادتها موظفين في أجهزة بيروقراطية عالمية بليدة، ثم فاسدة ثم أصبحوا لا يبالون لمن يعملون براتب .
فكيف بنا ننظر الى متعاقد يعمل لحساب جهاز الأمن القومي الأمريكي باعتباره بطلا أو فارسا؟ انه النظر الى ما هو أعمق من السطح وتفحص الفعل الذي نفذه ادوارد سنودن، بعيدا عن التوصيفات الجاهزة. اذ قام سنودن بعمل جعله يقف جنبا الى جانب مع شخصين آخرين، يستحقان سمة البطولة والفروسية، هما جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس والجندي الامريكي برادلي ماننغ . قام سنودن بتسريب المعلومات التي توصل اليها بحكم عمله الاستخباراتي عن برامج التجسس الامريكية لرصد المكالمات الهاتفية ومراقبة اتصالات الانترنت في امريكا والعالم وبضمنها سفارات الدول الاجنبية ومكاتب الاتحاد الأوروبي داخل الولايات المتحدة. وقد أثبت كشفه ما كان يشك به الكثيرون الا انهم لايمتلكون الدليل لأثباته، مما جعلهم عرضة للاتهام السريع بالعقلية التآمرية. كما اثار كشف سنودن أزمة سياسية- تجارية بين أمريكا وأوربا أولا ثم تبادل اتهامات ما بين روسيا التي لايزال سنودن محصورا في مطار لها، وأمريكا التي وجهت اليه تهمة التجسس وعدد من دول امريكا اللاتينية الراغبة بمنحه حق اللجوء السياسي.
وكان سنودن قد طلب اللجوء إلى الإكوادور، التي تؤوي سفارتها، في لندن، منذ ما يزيد على العام، فارسنا الثاني جوليان أسانج الذي وصفته مؤسسة دريفوس لبحوث الانترنت بانه ‘ مهتم جداً بمفاهيم الأخلاق والعدالة، وما على الحكومات فعله وعدم فعله’.انطلاقا من هذه القناعة ورغبته في كشف الحقائق المحجوبة عن المواطنين، أسس جوليان مع عدد من الباحثين موقع ويكيليكس لتسريب المعلومات الدبلوماسية، مع توفير الحماية لمصادر التسريب، خاصة، في البلدان التي لا تتوفر فيها هذه الحماية بشكل قانوني. من بين مانشره الموقع: أكثر من 250 ألف برقية أمريكية مسربة في عام 2010. وتسريب أكثر من 1.7 مليون من البرقيات الدبلوماسية والاستخبارية ( عام 2012) التي تعود إلى السبعينيات من القرن العشرين.
سلطت الاضواء على الموقع حين نشر ما يقارب الاربعمائة ألف سجل عسكري سري من بين سجلات جيش الاحتلال الامريكي للعراق بالاضافة الى نشر وثائق عسكرية أمريكية سرية عن احتلال العراق وأفغانستان.
كل هذه الوثائق موجودة، الآن، في أرشيف الصحف العالمية مثل ‘ الغارديان’ التي وضعتها كقاعدة معلومات سهلة التبويب لمن له معلومات إحصائية متوسطة، عن جميع الأحداث التي سجلها جنود الإحتلال حسب قوانينهم الداخلية وضحاياها، رغم نفي زعمائهم وقتها أنهم يسجلون الضحايا. وبحيث يمكن بالإحداثيات تحديد موقع أي حادث عنف ارتكب تحت الإحتلال في خرائط المدن العراقية المتوفرة في ‘غوغل ايرث’، مما سيساعد كل من يريد توثيق مقتل وإصابة أي فرد من اقاربهم ماداموا يعرفون زمن ومكان الحدث، إن كان صداما مسلحا أو تفجيرا أو قصفا. واثار تسريب شريط فيديو التقطته مروحية أمريكية في العراق في 2007 يظهراستهداف مدنيين عراقيين ضجة كبيرة، في جميع انحاء العالم. اذ قام طاقم المروحية بقتل 11 شخصا من بينهم طفلان وموظفان في شبكة رويترز هما نمر نورالدين وسعيد شماغ.
ويعود فضل تسريب سجلات جيش الاحتلال الامريكي في العراق التي تعطي صورة تفصيلية عن همجية القوات وكيفية معاملتها للمواطنين والاعتقالات والتعذيب والقتل وبضمنها قتل عائلة عراقية بكامل افرادها، الى فارسنا الثالث الجندي والمحلل السابق في الاستخبارات العسكرية الأمريكية، برادلي ماننغ ( 25 عاما).
قام الفرسان الثلاثة، فيما يخص العراق مثلا، بما كانت قوات الاحتلال ومستخدموها تريد طمسه. وينطبق الشيء ذاته على كافة المستندات والوثائق التي تحاول الحكومات المهيمنة التي تدعي الديمقراطية تغييبها عن المواطنين. ان سلاحهم الوحيد هو كشف الحقيقة وان كلفتهم وظائفهم وتعريضهم للعقاب والاكثر من ذلك حرمانهم من الحرية.
ففي الوقت الذي لايستطيع فيه جوليان اسانج ان يخطو خطوة واحدة خارج السفارة الاكوادورية خشية القاء القبض عليه وترحيله الى السويد مما سيؤدي الى تسليمه الى الولايات المتحدة الامريكية، حيث يُتهم في قضية التسريبات وقد تكون عقوبتها الإعدام، لايستطيع سنودن مغادرة مطار موسكو والا تعرض للترحيل الى الولايات المتحدة بتهمة التجسس وعقوبتها الاعدام. أما مانينغ، فانه وبعد اعتقاله وحجزه في زنزانة انفرادية قيد التحقيق القاسي المستمر مدة تسعة اشهر، لاتزال عقوبة السجن مدى الحياة مسلطة على عنقه.
ان ما قام به أسانج وماننينغ وسنودن فريد من نوعه لانه يهدف الى كسر هيمنة وطغيان حكومات تنظر الى شعوبها وبقية ارجاء العالم نظرة استعلائية، وتتعاون مع الشركات الاحتكارية على انتهاك القوانين المحلية والدولية على حد سواء. ان مواقف الثلاثة، عبر السنوات، تؤكد ان ما دفعهم للخروج على ما هو متعارف عليه من قبول بمتطلبات العمل والمحافظة على سريته، العسكري والاستخباراتي خاصة، هو الوازع الأخلاقي وتحقيق العدالة. يقول مانينغ انه اراد ان يلقي الضوء على سياسة امريكا الخارجية، بينما يهدف موقع ويكيليكس، الى الدفاع عن حرية التعبير، وتوفير المعلومات الموثقة لجميع الناس ليتمكنوا من معرفة التاريخ بعيدا عن تضليل الحكومات المهيمنة. الحكومات التي توظف افرادا يقومون باعادة كتابة التاريخ ليتماشى مع ضرورات الدعاية الحالية، كما كان يفعل الموظف الحكومي وينستون سميث، بطل رواية 1984 للكاتب الانكليزي جورج اورويل.