أنفاس القرية - أعلام قريتي
وجوه وقصص: الحاج قسم الخالق ود إدريس
سليمان عبد الله حمد
لاشك بأن هذه النبع يعتبر فيض من ذاك الأمس الذى مضى ومضى معه كثيرا من شخصيات رجال كانوا لهم الكلمة العليا فى الأسرة الممتدة لا مخالف لحكمهم مما نعبره عنه بمصلح ( كبير العلية ) وتفرق الشمل بعدها ورأينا العجب العجاب بحيث أن هناك أمور كثيرة أنفلت منها ذمام أصحاب الرآي والمشورة لاسيما بأن فتاة اليوم أصبحت لها الكلمة والأخيرة فى أختيار من تتزوج لأن كثير من أولادنا تزوجوا من خارج إيطار الأسرة الكبيرة بسبب غياب صاحب الكلمة !! عجباً لهذا الزمان !!
ستظل القرية بوداعتها و طيبة أهلها و بشخوصها و عاداتها و أعرافها نبع لا ينضب في وجداني و هي التي شكلت شخصيتي و لونت إتجاهاتي في الحياة فأنا قروي حتى النخاع.
كنا في الماضي البعيد و نحن أطفال يافعين تستهوينا السويعات القليلة التي نمضيها قبل النوم مع حكاوي و أحاجي الحبوبات و الأمهات وهي السلوى الوحيدة لنا عند الأماسي في ذلك الزمن و ما أن يرخى الليل سدوله حتى نتكوم حول الوالدة ( الشول بنت أحمد ) رحمها الله و كانت راوية و مؤرخة لأحداث القرية ، تحكي لنا بنبرات حزينة فيها حنين دافق الي الماضي البعيد وكانت تتمتع بصوت شجي أخآذ و لها ملكة عجيبة في السرد تجعلك مشدوها و متفاعلا و تتمنى أن لا تنتهي الحكاية حتى يسرقنا النوم منها و تغطينا و تذهب في حالها.
و أذكر في إحدى الليالي المقمرة كانت تحكي لنا بزهو عن ود خالها المرحوم قسم الخالق ود ادريس و كان رجلا من طراز فريد يتمتع بخصال قل أن توجد في الآخرين كان نظيفا مهندما لا يلبس الا فاخر الثياب و ما كان يميز لبسه هو السروال الطويل و توب السوكوبيس الناصع البياض ولقد عايشناه في أوآخر ايامه و شاهدناه بتلك الهيئة تحكي الوالدة أنه كانت تربطه علاقة حميمة مع أغنامه خاصة و أن الله حباه بقطيع هائل من رؤوس الأغنام و كان فخور بها و يخاف عليها من العين و الحسد لكثرتها و كثرة إنتاجها من الألبان و كان عندما يتوجه بها للرعي يغني لها و يدندن بصوت طروب :
دودبن دودبن يا الشيخ حسن لأمات لبن و الدوداب هو الطريق المستقيم الذي تسير علي الأغنام
و تحكي الوالدة لنا أن إحدى نعاجه ماتت بعد فترة قصيرة من ولادتها و تركت له ( قرجة صغيرة ) و لعلمكم ان القرجة هي أنثى الضأن المولودة حديثا و يقال أنه كان يحملها بين ذراعيه كما يحمل الطفل الصغير و يبوسها مرات و مرات و يواسيها و يغني لها :
هي يا قريجة ما تهمي أنا بسقييكي بكمي ( قريجة تصغير لكلمة قرجة ) و بالفعل كان يسقيها براحتيه حتى كبرت !!!
كان كريما معطاة يقال أنه كان يرسل لكل مرضعة من نساء القرية ( كورة لبن كبيرة ) واحدة في الصباح و أخرى مثلها في المساء و لمدة أربعين يوما و لقد شاهدت بأم عيني الوالدة المرحومة الحاجة حكم السيد زوجته تقوم بهذه المهمة وتتنقل من بيت لآخر !!!
كان كرمه و سخاؤه يتجلى في مناسباته و في غير مناسباته و يقال أنه في يوم زواج إبنه المرحوم يوسف
ود قسم الخالق و هو إبنه الوحيد ( شقى الها ) أي عمل عيزومة لولده لم يسبقها عليه أحد و نحر عشرة ذبائح و أتى ( بالحكامات ) من الديوم الشرقية و الحكامات هن المغنيات في الأفراح في ذلك الزمن و أصابت الحكامات الدهشة بما رأينا من كرم و أصالة و فراسة و غنن له :
حقيقة القادر بسوي قسم الخالق خالك يا مضوي ( و مضوي هو ود أخته مضوي ود حسن ) و الحكامات كن يغنين على إيقاع الطنبور و النم من الفرقة الماسية التي كان يتزعمها ( المرحوم سليمان ود احمد ) بصحبة الكورس البشير ود عبد الجبار و رحمة الله ود الخليفة و مضوي ود حسن ، و بالرغم من كل تلك الخصال و الصفات الفريدة الا أنه كان رجلا هادئا متواضعا قليل الكلام و كما يقول لسان العرب سواي ما حداث
الا رحم الله سيد الرجال قسم الخالق ود إدريس
تلك الأهازيج جادت بها ذكريات من الأمس الزاهر أنفاس القرية فهى عبق ذاك الزمان الجميل فى تلك الحالمة قرتنا الجميلة جمال بناتها وصباياها !!! وسوف تتابع تلك الرؤي التى أضحت جرير ذاك الجدول الرقاق والدفاق عبر ذاك الزمان !!! فنحن جيل تربى على هذه الأهازيج واللوحات المشرقة والمتدفقة تدفق النيل فى بلادي !!!