الحرابة وتطبيق الحدود
أ.د/ عبد الرحمن البر
كثرت في الفترة الأخيرة حوادث القبض الجماهيري على البلطجية والتخلص منهم من جموع الناس في أماكن متعددة، بعد أن تولد لدى الجماهير شعور بالإحباط مما يعتبرونه تخاذلا وتراخيا من الشرطة في التعامل مع هؤلاء البلطجية، ومما يعتبرونه تراجعا من القضاء عن عقاب أولئك المجرمين وتسارعا في تبرئتهم أو الإفراج عنهم كلما ألقت الشرطة القبض عليهم، مما يشجعهم على المبالغة في ممارسة بلطجتهم وأعمالهم الإجرامية ضد الآمنين، فاتخذ البعض من ذلك ذريعة لممارسة القصاص منهم بأنفسهم، بصور شنيعة وغير إنسانية على الإطلاق.
ومع اتفاق الجميع على غوغائية هذا الفعل فقد تباينت ردود أفعال العامة تجاه هذه التصرفات، ما بين موافق عليها مستبشر بها، مبررا ذلك بأن هذه النهاية التعيسة للبلطجية والمجرمين هي الكفيلة ببث الرعب في قلوبهم، ودفعهم نحو كف الأذى عن الناس، ويعدون ذلك ردعا طبيعيا مقبولا في غياب الإحساس بالأمن والعدالة، وما بين رافض لهذه التصرفات يعتبرها انحدارا نحو اللادولة واندفاعا نحو دوامة الفوضى والفتنة التي لا تبقي ولا تذر.
لهذا وجب على أهل العلم والفكر والمهمومين بأمر الأمة أن يواجهوا هذه الظاهرة بما يناسبها، سياسيا وأمنيا وتشريعيا وقضائيا وشرعيا، وفيما يلي أضع بين يدي القراء الكرام رأيي الفقهي في المسألة، فأقول وبالله التوفيق:
حرص الإسلام كل الحرص على استقرار حياة الناس والحفاظ على أمنهم، وحرّم كل اعتداء أو ترويع يهدد هذا الاستقرار، ويضيع هذا الأمن؛ وذلك لأن الأمن من كبريات النعم التي امتن الله بها على عباده، فقال سبحانه ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 3، 4] وقال سبحانه ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67]، وقال سبحانه ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [القصص: 57] ففي ظل الأمن تمضي الشرائع، وتزدهر الحياة، ويسعد الناس.
لذلك كله حرَّم الإسلام كلَّ سبب يفضي إلى تهديد هذا الأمن، ومن ذلك البغي والخروج على الأمة وحمل السلاح في ذلك، وكذلك حرَّم الخروج على النظام العام وتهديد حياة الناس عن طريق قطع الطريق أو الاغتصاب أو السرقة بالإكراه والتهديد بالسلاح ونحو ذلك . ولقد كان الإسلام واضحاً كل الوضوح، حاسماً كل الحسم في هذا الأمر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن تحافظ على وحدتها وأمنها، وألا تسمح لأحد كائناً من كان أن يهدد وجودها وأمنها، وأمر بالتصدي لهؤلاء المفسدين؛ درءاً لشرهم ووأداً للفتنة التي يريدون أن يبعثوها في الأمة.
وفضلا عما أعد الله لمن يمارس هذا الإفساد من الخزي والهوان والعذاب العظيم في الآخرة، فقد جعل لهم في الدنيا خزياً آخر من خلال العقوبة التي أمر بها في شأنهم، وهي القتل أو الصلب أو النفي من الأرض، ما لم يتوبوا قبل القدرة عليهم، فإن تابوا قبل أن يقدر عليهم الإمام فإن الله غفور رحيم، فقال تعالى ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 33، 34]
ومفهوم المحاربة والسعي في الأرض فسادا يصدق على كل من وقع منه التعدي على دماء العباد وأموالهم في كل قليل وكثير وجليل وحقير، وحكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية، من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، لكل من خرج على الناس بسلاحه، يقتلهم، أو يقطع طريقهم، أو يغتصب أموالهم، أو يحارب جنودهم، أو يهين سلطانهم، أو يعتدي على أعراضهم، أو يمارس السطو المسلح واغتصاب النساء، سواء فعل ذلك في مدينة أو قرية أو في طريق عام أو خاص، في مكان مأهول بالناس أو غير مأهول.
وعقوبة المحارب تكون بحسب الجريمة التي ارتكبها، فمن أخاف الناس وقطع الطريق وأخذ المال قُطعت يده ورجله من خلاف، وإن زاد على ذلك قبل الناس قُطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قُتل، وإن مارس إخافة الناس فقط ولم يأخذ المال ولم يقتل نُفِي أو عُزّر.
لكن من الذي يطبق هذه العقوبة؟ وهل لفرد ما أن يقوم بتطبيقها بنفسه؟ أو هل لمجموعة أن تتفق فيما بينها على القيام بتطبيق هذه العقوبة من تلقاء نفسها؟ هذه أسئلة صارت تطرح اليوم بكثرة مع شيوع ظاهرة الفلتان الأمني أو التراخي الشرطي أو التخاذل والتراخي من جانب أجهزة الدولة المعنية في حفظ الأمن أحيانا، وفي ظل عدم إحساس المواطنين بالعدالة الحقيقية.
وهنا لا بد من الوضوح والحسم في بيان موقف الشريعة الإسلامية، حتى لا يدفع التميع في المواقف إلى الالتباس والتخبط مما يزيد الأزمة إشعالا.
من الذي يقيم الحدود؟
الذي يقيم الحدود وينفذ العقوبات هو الإمام أو الحاكم، أو من يعيِّنه الإمام لهذا العمل كالقضاة والشرطة غيرهم، وفق القواعد والقوانين المنظمة لذلك، ولا يجوز إقامتها إلا بعد ثبوتها بأحد طريقي الثبوت: إما بالإقرار، وإما بالبينة. ولا يجوز إقامة الحدود خارج هذا الإطار بحال من الأحوال.
وليس لآحاد الأمة أن يقيموا الحدود إذا تغافل عنها الحكام؛ لئلا يحدث ما يفتت الأمة، فلكلٍّ فيها وظيفتُه، وإقامةُ الحدود من وظيفة الحاكم المسلم، فإن لم يُقِمْها فإنه يتحمل إثمَ تعطيل حدود الله، ولكن لا يقوم آحادُ الأمة بتطبيقها.
وإن رأى أحدٌ غيرَه على حدٍ من حدود الله ولم يَقُم الحاكمُ بتطبيق الحدِّ عليه فليس عليه عندئذٍ إلا الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والدعوةُ لهذا العاصي بالهداية، فعسى الله أن يتوبَ عليه ويشرح صدرَه لطاعته.
إذا ثبت هذا فإن تنفيذَ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة بأمر الحاكم وليِّ أمر المسلمين، وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو الهيئات التي لم ينتدبها الحاكم لهذه المهمة. وهذا مما اتفق الفقهاءُ عليه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانةُ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. والحاكم هو القادر على الإقامة؛ لشوكته ومنَعَته وانقياد الرعية له بمقتضى السلطات الممنوحة له والأجهزة الأمنية التي يديرها، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه وفي حق الأجهزة القضائية التي تحكم في الخصومات، فيقيمها على وجهها، فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يقيم الحدود، وكذا خلفاؤه رضي الله عنهم من بعده.
وبناءً على ما سبق لا يجوز لشخصٍ مهما كان ولا لجماعة من الناس أيا كانوا أن يتولوا تنفيذ العقوبات الشرعية، ولا يجوز أن يقوم البعض بالحكم على البلطجية والمخربين وتنفيذ الحكم فيهم بعيدا عن القانون والنظام القائم، لكن إن تعرض البلطجية لفرد أو مجموعة أو قطعوا الطريق عليهم، ولم تغثهم أجهزة الأمن وخافوا أن يلحق بهم الأذى من البلطجية فإن لهم أن يدفعوا الأذى وأن يردوا العدوان عن أنفسهم ، دون أن يتجاوزوا حدود كف الأذى ورد العدوان، وقد سبق أن كتبت مقالا قبل اسابيع بينت فيه أحكام مواجهة البلطجية، وأنا أختم مقال اليوم بما ختمت به ذلك المقال:
وفي الختام: فإن دور البلطجية يزداد ويتمدد في الفراغ الذي تتركه الدولة وأجهزتها الأمنية، وإذا زادت الظاهرة كانت منذرة بحرب أهلية، ولهذا فإن الأمم الحية والدول المتحضرة تعمل على مواجهة ظاهرة البلطجة مواجهة شاملة، من خلال الوقوف على أسباب الظاهرة دينيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وتتداعى جميع أجهزة الدولة وهيئات المجتمع المدني للتوحد في مواجهة هذا الشر المستطير وتنسيق الجهود للتخلص من البلطجة، وهذا ما نحتاجه في مصر اليوم للنهوض والتعافي وتجاوز الأزمة. والله الموفق والمستعان.