دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 14 -18

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

د. أبو بكر الشامي

نماذج جهادية متألقة (14 )

بناءً على فهم الأمة العميق لمعاني الجهاد في سبيل الله ، فقد تألق التاريخ العربي الإسلامي بنماذج جهادية باهرة ، لم تكن لتحصل إلا في أمة عريقة كأمة العرب ، وفي ظل نظام رباني كنظام الإسلام ..

فعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً من أهل دمشق ، قد سقط حاجباه من الهرم ، وهو راكب راحلته يريد الغزو في سبيل الله ، فقلت له يا عمّ .! أليس قد أعذر اللهُ إليك .!؟

فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي ، لقد استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنه من يحبّه الله يبتليه .. الكشاف(2/34).

ولقد خرج سعيد بن المسيّب ( رض ) إلى الجهاد وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليلٌ وصاحبُ ضرر ، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنني القتال ، كثّرت سواد المسلمين ، وحفظت متاعهم .

ولقد عُثر على عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ، صاحب رسول الله (ص) في جند القادسيّة ، وهو يحمل لواء المسلمين ، وعندما سُئل عن سبب خروجه للجهاد وقد أعذره الله ، فقال : أفلا أكثّر سواد المسلمين .!؟ الاستيعاب (2/494).

بل حتى النساء كنّ يتسابقن إلى نيل شرف المشاركة في الجهاد العربي الإسلامي ، فلقد شهدت نُسيبة بنت كعب المازنيّة ( أم عمارة رضي الله عنها ) ، أغلب غزوات الرسول ( ص ) ، ولقد أبلت في أُحد بشكل خاص بلاءً عظيماً ، حتى جُرحت بين يدي رسول الله ( ص ) جراحات عدّة ، كما شاركت مع خلفائه من بعده رضوان الله عليهم ، ولقد قاتلت المرتدّين في اليمامة مع القائد المبدع خالد بن الوليد ( رض ) وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها وجُرحت بضعة عشر جرحاً .

الإصابة ( 8/198).

ولقد ركبت أم حرام بنت ملحان ، زوجة عبادة بن الصمت رضي الله عنها وعن زوجها ، البحر مجاهدة في سبيل الله ، وذلك في غزوة قبرص ، سنة (27) للهجرة الشريفة ، واستشهدت هناك ، وقبرها معروف في قبرص إلى اليوم .!!!

وهكذا كان تفاعل أبناء الأمة مع دعوتهم ورسالتهم ومبادئهم ، تفاعل جهاد وعطاء وتضحية ، حتى غيّروا بجهادهم خارطة العالم ، وعدّلوا بتضحياتهم مسار التاريخ ، وبالتالي فقد ألبسهم الله ما يستحقّون من أثواب العزّة والكرامة والنصر والتمكين ، مكافأة لهم على صدقهم وحسن بلائهم …

وها هم أولاء اليوم ، أحفاد القرامطة والحشّاشين ، وأحفاد ابن العلقمي وأبي رغال ونصير الكفر الطوسي ، من الأسديين والصفويين ومن مالأهم من المنافقين والمرتدين ، ها هم أولاء ، يعيثون في شام الأنبياء والصدّيقين والفاتحين ، فساداً وتخريباً ، وإذلالاً ، وقتلاً  ، واعتقالاً ، وتشريداً  ، متوهّمين – خسئوا – بأن شامنا الحبيبة ، يمكن أن تكون فريسة سهلة لهم ، وأن خيراتنا يمكن أن تكون مشاعاً لأوباشهم  …

وما درى أولئك الأغبياء الأشقياء ، بأن لحمنا في الشام مرّ لا يؤكل ، وأننا يمكن أن نصبر ساعة ، ولكننا لا نقبل بالذل والمهانة إلى قيام الساعة  ...!!!  

فخابوا وخسئوا ... وفي الرجس انتكسوا ...

وأيم الله … لو لم نجد إلا الذرَّ لنجاهد به ، لما تركنا أولئك المجرمين والقتلة والموتورين الحاقدين ، يعيثون بأمننا  ، ويستذلون حرماتنا ، وينهبون خيراتنا ...

فيا رياح الجنّة هبّي ..!!! ويا خيل الله اركبي … ولقد قبلنا التحدّي …!!!

وكما انتفضت أجيال الأمة من قبل ، ولبّت بحماسة المجاهدين ، وإقدام المؤمنين الصادقين ، كلّ نداءات التاريخ ، فكذلك انتفض المؤمنون الغيارى من أبناء سورية الحبيبة  ، شيباً وشباباً ، رجالاً ونساءً  ، وفي مقدّمتهم الرجال الغيارى من أبناء قواتنا المسلحة ، من أسود الجيش السوري الحرّ البطل ، يعاونهم ويشد من أزرهم ويقف في خندقهم كل أصيد أغر من أبناء هذه الأمة المجاهدة ، من المحيط إلى الخليج ، مع تسجيل أسمى آيات المرحى ، وأعلى نياشين الفخر ، للتقاة الكماة أصحاب السبق من أبنائنا النجباء ، وبناتنا الماجدات ، مدنيين وعسكريين ،  من أقصى جنوب الوطن إلى أقصى شماله ، ومن أقصى غربه إلى أقصى شرقه ، فقد والله شرّفوا الأمة ، ورفعوا رأس العرب ، وأثلجوا صدور المؤمنين والإنسانيين ... 

وكما انتصرت القلّة المؤمنة في ( بدر ) و ( القادسيّة ) و ( اليرموك ) وغيرها …

فكذلك ستنتصر – بعون الله – إرادة الحق والخير والإيمان والفضيلة ، التي يمثّلها المؤمنون المجاهدون من أبناء جيشنا السوريّ الحر البطل ، وستندحر – بإذن الله – قوى الكفر والظلام والحقد والطغيان والسّاديّة ، متمثّلة في عصابة الأسد وشبّيحته الغادرة الفاجرة ، ومن ساندهم من أحفاد ابن العلقمي ، ونصير الكفر الطوسي  وسيشرق فجر الشام والعرب والإسلام من جديد ، وتعود سورية الحبيبة إلى دورها الريادي والقيادي في الأمة …

(( ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ))

الروم ( 5)  صدق الله العظيم

**************

خطة جهادية مذهلة ( 15  )

بعد أن قُمعت الردّة وأُخمدت نار الفتنة في جزيرة العرب كما ذكرنا ، أراد الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رض ) أن يستثمر الزخم الجهادي المتدفّق للعرب ، والروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخيّ الرائع  ( الفتوحات الإسلامية ) وفتح له باب التطوّع ، وبدأ بالعراق ، فأوعز إلى قائده المبدع خالد بن الوليد  (رض ) _ وكان قد فرغ لتوّه من القضاء على المرتدّين ، وعلى رأسهم مسيلمة الكذّاب في اليمامة _ أن يدخل العراق من جنوبه الشرقي ، كما كتب إلى عِياض بن غنم ، وهو قائد آخر يلاحق فلول المرتدّين في منطقة الحجاز ، وأمره أن يدخل العراق من شماله الغربي ، بحيث يطبقان على غربيّ نهر الفرات بفكّي كمّاشة  وأمرهما أن يلتقيا في الحيرة ، وأيهما سبق إليها فيكون هو الأمير .. !!!

ترى .. أين تعلّم أبو بكر الصدّيق ( رض ) فنون الستراتيجية والحرب حتى يضع مثل هذه الخطة الرائعة .!!؟

يقول العسكريون : الخطة البسيطة الواضحة هي أهم عنصر في نجاح القائد .!!

فما أبسطها ، وما أوضحها وما أروعها من خطة … !

إنها خطة ذات مرحلتين ، في المرحلة الأولى : يتم الإطباق على غربي نهر الفرات وتطهيرها من القوات الفارسيّة ، وهي منطقة قريبة من صحراء العرب ، ولهم خبرة كبيرة فيها ، فإذا نجحت الخطة ، فيتم الإنتقال إلى المرحلة الثانية :

وهي الوثوب إلى المدائن من قاعدة ارتكاز متقدّمة في ( الحيرة ) بعد أن يتأمن ظهر المسلمين وجنباتهم ...

أما إذا لم تنجح الخطة ، فيلوذ العرب بصحرائهم القريبة ، فهم بها أعرف ، وعدوّهم بها أجهل ، حتى يتم الإعداد لخطّة جديدة ، ووثبة متجددة … وهكذا …

وهو الذي أسميناه عدم التشبث في الأرض ، وهو من روح وجوهر حرب القلّة ضد الكثرة ، أو ما يسمى بحرب العصابات  

وتحرّك الأسطورة خالد ( رض ) على رأس ثمانية عشر ألف مجاهد لتطبيق الخطة المرسومة ، فدخل العراق في شهر محرّم سنة اثنتي عشرة للهجرة ، الموافق لشهر نيسان من سنة (633 م ) مبتدئاً بثغر العراق الجنوبي ( الأُبلّة ) التي كانت أشهر ميناء على شط العرب ، والتي تبعد عن موضع البصرة الحالية ( التي لم تكن موجودة ) حوالي أربعة فراسخ ( 22 كم ).

وقبل أن يصلها ، كتب خالد ( رض ) إلى أميرها من العجم واسمه هرمز :

( بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فأسلم تسلم ، واعتقد لنفسك ولقومك الذمّة وأقرر بالجزية ، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك ، فقد جئتك بقوم يحبّون الموت كما تحبّون الحياة .!!! )  الطبري ( 4/5)

ولما وصلت الرسالة إلى هرمز استشاط غضباً ، وجمع قوّاته وقيّدهم بالسلاسل كي لا يفرّوا ( ولذلك سميت الموقعة بذات السلاسل ) ..!!!

نزل خالد وعبّأ قوّاته قبالة الفرس ، وحرّضهم على الجهاد في سبيل الله ، ولكنّ هرمز كان يحيك خيوط مؤامرة خسيسة ، فخرج بين الصفين ، وطلب المبارزة ، ونادى : ( رجل برجل … أين خالد .!؟ )

وكان قد عهد إلى فرسانه بالغدر ، وتواطؤوا على ذلك …!!!

وتلقّاه خالد ( رض ) ، فاختلفا ضربتين ، ثم لم يمهله خالد ، فهجم عليه واحتضنه . وهنا غدرت حامية الفرس المكلّفة بذلك ، فهجمت على خالد وهو مشتبك مع هرمز وأحاطوا بهما من كل جانب حتى اختفيا بينهم ، ولكنّ ذلك لم يشغل خالداً عن قتل هرمز ، فقتله وألقى بجثّته تحت أقدام الخيل .!!!

ولما رأى القعقاع بن عمرو التميمي ( رض ) البطل العربيّ المعروف ، غدر الفرس  قاد المسلمين ، وأنشب القتال ، وهجم على الفرس حتى كشفهم عن قائده خالد ( رض ) فوجده يقاتلهم وحده قتال الأبطال ، وهنا بدأ الرعب يدبُّ في صفوف العجم ، وانهارت معنويّاتهم ، فركب المسلمون أكتافهم حتى هزموهم شرّ هزيمة …

وكانت هذه فاتحة انتصارات المسلمين على العجم ، مما أعطتهم زخماً جهادياً عالياً  وروحاً قتالية متوثّبة ، وكانت فأل خير لجميع انتصاراتهم اللاحقة …

***************

معركة المذار( 16)

المذار .. موقع على الشاطئ الشرقي لدجلة ، في مكان تلتقي فيه الأنهار ، وتتشعب منه الطرق إلى الأهواز والجبل وفارس والسواد ، ويقع على مسافة أربعة أيام من البصرة ، حوالي 175 كم إلى الشمال من الأُبُلّة ، بالقرب من واسط عاصمة ميسان اليوم …

وحدثت موقعة المذار بعد موقعة ذات السلاسل ، في اوائل صفر (12 هجري ) الموافق لشهر نيسان (633م) . حيث وصلت أخبار هزيمة هرمز إلى المدائن ، فأرسل الفرس مدداً يرأسه ( قارن بن قريانس ) وتوجّه هذا الأخير باتجاه الجنوب حتى بلغ المذار فعسكر فيها وعبّأ قواته …

أما خالد ( رض ) فكانت عيونه الساهرة تأتيه بأخبار تحركات العجم أولاً بأول ، فلما علم بتجمع الفرس في المذار بادر بتوزيع غنائم النصر على المجاهدين لرفع معنوياتهم ، كما أرسل بشائر النصر إلى المدينة المنورة ، ثم تحرك من فوره على تعبئة تامة لسحق تجمع الفرس في المذار قبل اكتماله ، وجعل على مقدّمته البطل العربي الإسلامي المعروف ، المثنى بن حارثة الشيباني ، الذي كان مع قبيلته بني شيبان من أكثر العرب خبرة بالفرس وجرأة عليهم .

والتقى الجمعان ، وكالعادة فقد خرج قائد الفرس ( قارن ) يبحث عن كرامته المفقودة طالباً المبارزة ، وكالعادة أيضاً ، فقد كان العملاق خالد ( رض )  له بالمرصاد ، إلا أن أحد  كماة العرب واسمه معقل بن الأعشى بن النبّاش ويكنّى ( بأبيض الركبان ) سبق خالداً إليه فقتله ، ثم تزاحف الفريقان ودارت رحى معركة رهيبة أبلى فيها صناديد العرب والإسلام أعظم البلاء ..!!!

وفي المواطن الصعبة تلمع معادن الرجال … ولله درّهم من أبطال شجعان ..!!!!

فأما البطل العملاق عاصم بن عمرو التميمي ، أخو القعقاع بن عمرو التميمي ، وقائد ميمنة المسلمين ، فقد شكّل مجموعة استشهاديّة قادها بنفسه ، ولم يزل يضغط على من قبالته من ميسرة العجم حتى خلُص إلى قائدها ( أنو شجان ) فقتله .

وكذلك فعل عديّ بن حاتم الطائي ، قائد ميسرة المسلمين ، فلم يزل يضغط حتى دحر ميمنة العجم ، وخلص إلى قائدها ( قُباذ ) فقتله  ، وضغط بقية المسلمين على العجم  وتطايرت الرؤوس ، حتى كست الدماءُ الأرضَ ، فكانت مذبحة عظيمة في صفوف العجم ، حيث قتل منهم ثلاثون ألفاً ..!!! ( الطبري /4/7) .

وانهارت معنويات الفرس ، فولّوا الأدبار لا يلوون على شيء ، ولولا المياه التي منعت المسلمين من تعقّبهم لما نجا منهم أحد .!!!

*******************

كميـــن رهيب في الولجة  ( 17 )

بلغت أخبار هزيمة الفرس في معركة المذار إلى المدائن ، فأرسل ملكها ( أردشير ) على عجل جيشاً  يقوده ( أندَرْزَغرْ ) ، ثم أتبعه بجيش ثانٍ يقوده ( بهمن جاذويه ) وأمرهما أن يطبقا على جيش المسلمين المتوغّل في سواد العراق بفكّي كماشة ، كان ذلك في أواخر صفر ( 12 هجري ) الموافق لبداية أيار (633 م )..

انتهت هذه الأخبار إلى خالد ( رض ) وهو ما زال بالمذار ، فقدّر الموقف تقديراً صحيحاً وآثر أن ينسحب إلى الجنوب لكي يفلت من الكمّاشة ، ولم يكن خالد ( رض ) ممن ينتشي بالنصر فينسيه الحقائق العسكرية في أرض الميدان وما يجب عليه فعله لمواجهتها ، كما أن خطة العرب في جميع فتوحاتهم لم تكن لتركّز على الاحتفاظ بالأرض كما ذكرنا ، بل كانوا يركزون على سحق معنويات الخصوم وقوّاتهم المحاربة ، ثم تكون الأرض لمن غلب .!

علم خالد ( رض ) بوصول ( أندرزغر ) إلى منطقة الولجة ، فقرر مهاجمته قبل اكتمال قواته ، وقبل أن ينضمّ إليه بهمن أيضاً ، فزحف إليه على تعبئة ، ولما وصل إلى الولجة وجدها أرض منبسطة مفتوحة خالية من المسطحات المائية ، فعرف ببديهته العسكرية الفذّة أنها أرض صالحة للمناورات التكتيكية ، ووضع خطّته الرهيبة التالية : عبّأ قواته الرئيسية قبالة الفرس وأخفى قوّتين من الفرسان ، الأولى من يمين الجيش وعليها البطل ( بسر بن أبي رهم الجهني ) ، والثانية من اليسار وعليها ( سعيد بن مرّة العجلي ) ، وأمرهما أن لا يطلعان إلى القتال إلا بأمره  ثم أنشب القتال ، ودارت رحى معركة ضروس حتى أنهك الجانب الفارسي وهزَّ معنوياته ، وبينما العجم ينتظرون طلوع المدد عليهم الذي يقوده بهمن ، إذ أمر خالد قوات الفرسان بالالتفاف عليهم ، فخرجوا من خلفهم ، من حيث ينتظرون المدد  وأعملوا فيهم السيوف قتلاً وأسراً ، فذهلوا ، وأسقط في أيديهم ، وخارت عزائمهم  ثم لاذوا بالفرار لا يلوون على شيء ، وكان على رأس الفارين قائدهم ( أندرزغر ) الذي تقول الروايات أنه مات في الصحراء من العطش .!!!

أما خالد ( رض ) فقد قام خطيباً في قواته يهنئهم بالنصر والفتح ، ويمنّيهم بالمزيد إذا هم صبروا واحتسبوا ، ثم أمر بالأسلاب فوزّعت على أصحابها كائنة ما تكون ، ثم نفّل كعادته أهل البلاء من خمس الغنائم ، وأرسل ببقية الخمس وبشائر النصر إلى المدينة المنوّرة ، وسار في الفقراء والفلاحين والمغلوب على أمرهم من الفرس من غير المحاربين ، بسيرته السابقة ، حيث أقرّهم  على أراضيهم ، وأبقاهم في قراهم ، بدون أن يمسّهم أحد بسوء .

وبينما راح خالد ( رض ) يستعد للمواجهة المقبلة ، ويضع خطّته لموقعة تالية ، كان الأبطال من جنوده الأوفياء يحيون أمسياتهم بالفرح والسمر وإنشاد الشعر ، وكان مما قاله أسد العرب والإسلام ، القعقاع بن عمرو التميمي في تلك الملحمة :

ولم أرَ قوماً مثلَ قومٍ رأيتهم      على ولَجاتِ البَرِّ أحمى وأنجبا

وأقتَلَ للروّاسِ من كلِّ مجمعٍ     إذا ضعضع الدهرُ الجموعَ وكبكبا

أُلَّيـْـس ونهر الدَّمْ ( 18 )

وصلت أخبار هزيمة الفرس في الولجة إلى المدائن ، فكتب ملكها ( أردشير ) إلى بهمن جاذويه ، وكان لا يزال في سواد العراق ، أن يتحرّك إلى ( أُلَّيْس ) ويجمع فيها فلول المنهزمين ، بالإضافة إلى ما يمكنه جمعه من أهل السواد ، فقدّم بهمن مقدّمته وعليها ( جابان ) وأمره بالإسراع إلى أُلَّيس ، وهي مدينة على صلب الفرات من ناحية البادية ، بينما توجّه هو شمالاً إلى المدائن لمقابلة أردشير في أمور أراد أن يحدّثه فيها ، فوجده مريضاً ، فاتّخذها حجّة للبقاء إلى جانبه ، وترك جابان لمصيره المحتوم أمام أسطورة الحروب خالد ( رض ) .!

كان ذلك في أواخر صفر سنة ( 12 هجري ) ، الموافق لأوائل أيار سنة ( 633 م )

أما خالد ( رض ) فقد كان يرقب كلّ هذه التطورات بعين الصقر ، فلما علم بتجمعهم في أُلَّيس وثب عليهم وثوب الأسد ، فما راعهم وهم على موائد الغداء ، إلا وخالد ومن معه من أسود الإسلام يركبون أكتافهم ، ويعملون السيوف في رقابهم ، فأسقط في أيديهم ، وخارت عزائمهم ، وأقسم خالد (رض ) فقال : ( .!!! )..

فلما بدأت صفوف العجم تتضعضع ، وانكشفوا للمسلمين ومنحهم الله أكتافهم ، صاح خالدٌ برجاله : ( الأسرَ ، الأسرْ .. لا تقتلوا إلا من امتنع ) ،

فأقبلت خيول المسلمين بهم أفواجاً مستأسرين ، يُساقون سوق الأنعام ، فضرب أعناقهم ، وأجرى دماءهم في النهر ، فجرى نهر الفرات أحمر قانياً ، ودارت الطواحين فطحنت بالماء وهو أحمر ثلاثة أيام ، وبقي النهر يعرف ( بنهر الدم ) لعدّة قرون ، وهو من الرعب الذي نُصر به سيف الله خالد ، وكان يسبقه صيته مسيرة شهر .!!!

ولما رجع المسلمون من مطاردة فلول المنهزمين ، وجدوا الطعام على البُسُط لم يمسسه أحدٌ بعد ، فقال خالد (رض ) : ( قد نفلتكموه ، فهو لكم ) فنزل المسلمون لعشائهم وقد أقبل الليل ، وراحوا يتسامرون بأطايب الكلام ، فوق ما ساق الله إليهم من أطايب الطعام …!!!

فلما أقبل عليهم الصباح ، بعث خالدٌ ( رض ) بالغنائم وأخبار الفتح إلى أبي بكر الصدّيق ( رض ) في المدينة المنوّرة ، فجمع الناس هناك ، وصعد المنبر الشريف ، وزفَّ إلى المسلمين بشائر الانتصارات التي صنعها سيف الله خالد ( رض ) ، ولقد قدّر الرواة عدد قتلى العجم في أُلَّيس وحدها بسبعين ألفاً ..!!!