فلسطين بين بلفور وأوباما!

د.مصطفى يوسف اللداوي

فلسطين بين بلفور وأوباما!

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

كأن المستعمرين يتواصون فيما بينهم، ويُتابعون جهود بعضهم، ويوصون مَنْ بعدهم، ويؤسس أسلافهم ويرث خلفهم، ولا يتخلون عن دورهم، ولا يتراجعون عن وعودهم، ويُخلصون في أعمالهم، ويُقسمون على اتمامها وعدم نقصانها، ويتعهدون برعايتها والاهتمام بها، وتزويدها بكل أسباب القوة والمنعة، ومنحها كل عوامل البقاء والاستمرار، وحمايتها من كل معاول الهدم والخراب، لتبقى قوية قادرة على الصمود والثبات، وتحدي الصعاب والعقبات، وكأن في تنفيذ وصاياهم بقاء أوطانهم، وفي وفائهم استمرار قوتهم، وتواصل إمبراطورياتهم، وضمان مستقبلهم، وفي تخليهم تفكك حكمهم، وضياع ملكهم، وذهاب ريحهم..!!

قبل قرنٍ من الزمان كانت بريطانيا تسود الكون، وتتصدر العالم، وتحوز على مناطق نفوذٍ واسعة، وتتحكم في دولٍ كثيرة، وتخوض غمار حروبٍ عديدة، وتواجه بأساطيلها دولاً وتُسقط حكوماتٍ، وتحتل أراضٍ وتُقسم بلاداً، وقد كانت قديماً وما زالت تُعادي العرب، وتكره المسلمين، وتتآمر عليهم، وتتحالف ضدهم، وتعمل لتأخيرهم، وتجتهد لتخلفهم، وتسعى لتبعيتهم، وتُقاتل لتمكين أعدائهم، وتزودهم بكل ما يجعلهم أقوى وأشد بأساً ومراساً، فمنحت في ظل قوتها، وأثناء سيطرتها وانتدابها، وفي ظل ضعف العرب وفقدانهم لاستقلالهم، وتمزق دولة الخلافة وتشتت ملكها، لليهود "وطناً قومياً" في فلسطين، وأعطتهم وعداً برعاية كيانهم، وضمان خلقه وبقائه، وتحدت بوعدها الشهير العرب والمسلمين، وزرعت في قلبهم خِنجراً مسموماً قاتلاً ما زلنا نُعاني منه، ونشكو من ويلاته وشروره وآثامه..!!

مات (بلفور) وذهب، وانتهت إمبراطورية إنكلترا وتفككت، لكنها قبل أن تغيب عن مستعمراتها الشمس، سلَّمت الراية للولايات المتحدة الأمريكية، وحمَّلتها مسؤولية رعاية (إسرائيل)، وحفظ أمنها، وسلامة كيانها، وعهدت إليها بهذه الأمانة، فصانتها وحافظت عليها، ولكنها كانت أخلص من سابقتها وأوفى، وأكثر حِرصاً وأكرم عطاءً، وكانت أقوى وأعظم، وأكثر بطشاً وأبلغ ظلماً، وأقدر على حمل الأمانة من سلفها، فرعتها سنيناً، وحفظت أمنها دهراً، ومنحتها السلاح بوفرة، والأموال بكثرة، وفتحت أمامها أبواب جامعاتها ومعاهدها، وبيوتها ومؤسساتها، وزودتها بالأبحاث والدراسات، والتقارير وأدق المعادلات، وموّلتها وأكرمتها حتى غدت قوةً كبيرة، وترسانةً عسكرية ضخمة، تمتلك جيشاً وعتاداً، وسلاحاً فتاكاً، وقنابل نووية، ومختبراتٍ ومفاعل نووية متقدمة، قادرة على التسليح والتخصيب، والتهديد والتدمير..!!

لا فرق بين (بلفور) و(أوباما)، فكلاهما في السوء واحد، وفي الشر سواء؛ فالأول شرعَّ وأسس، والثاني موّل ومكَّن، وزوّد وتعهد، وضمن التفوق، وشدد على التميز، ودعا للاعتراف، وحض على القبول والتعايش، وضغط من أجل فرض رؤى "السلام" التي تخدم الكيان، ونصح رئيس وزرائها بأن يسعى لسلامٍ مع الشعب يُنهي القتل، ويستأصل العداء، ويضمن بقاء دولة الكيان، فلا سلام مع ديكتاتوريات، ولا معاهداتٍ مع حكوماتٍ جبرية، وأخرى تحكم بالعنف والقهر، وتعهد لربيبة بلاده أن تبذل جهدها، وأن تُمارس دورها، وأن تستخدم ضغطها، لتشرع للكيان بقاؤه، وتضمن استمراره، وتُفكك الأخطار من حوله، وتُزيل الألغام من تحته، وتُطفئ النار إن اشتعلت من حوله..!!

الوعد الأول تعهد بالخلق والتأسـيـس، ولكن وعد (أوباما) الذي أمل به العربُ وكثيرٌ من المسـلمين أشـد وأخطر؛ فهو يدعو إلى دولـةٍ يهوديـة، يعترف بها العرب والمسـلمون، ليخرج من "أرض إسـرائيل" كل من هو سـواهم، فلا يسـكن فيها عربٌ ولا مسـلمون، ولا يعيـش فيها موحدون ولا مسـيحيون، وإنما تبقى لليهود خالصـة، ولهم وحدهم نقيـة...، ونصح الفلسـطينيين من أرضهم ومن فوق منابرهم محذراً، أن يُعجلوا بالاعتراف، وأن يقبلوا بالواقع، (فإسـرائيل) دولـةٌ يهوديـة، وللفلسـطينيين وعدٌ مهترئ، وكلامٌ تذروه الرياح، بأن تكون لهم دولـة وكياناً، يعيـش فيها بعض شـعبهم، وفيها يبنون مؤسـسـاتهم، ولكنـه لم يُحدد أين هي أرضهم، ومكان بلادهم، وتركها لكرم اليهود ودهاء الإسـرائيليين، وخبث قادتهم، ومكر سـاسـتهم...!!

وعد (أوباما) للإسرائيليين كان فعلياً وعملياً، ولم يكن مجرد توصية وأملاً، فقد شغل مضاداتهم، وزود قبتهم الفولاذية ببطارياتٍ جديدة، وشغل منصاتهم المضادة (بباتريوتٍ) فحصها بنفسه، وعاين قدراتها في وجوده، واطمأن إلى أنها قادرة على الصد والمنع، والحماية والوقاية، ووعد قادة الكيان الذي بدا قديماً أنه يُخاصمهم ولا يودهم، وأنه يكرههم ولا يُحبهم، بأن يقف إلى جانبهم ويُساندهم، ويمدهم بالمزيد من السلاح والكثير من المال، ليضمن تجاوزهم لأي أزمة، ونجاتهم من أي محنة، وخلاصهم من تداعيات أي ثورة، وظهر (نتنياهو) إلى جانبه، وسارةٌ تتيه معه، أنه يحصد ثمار سياسته، ويقبض ثمن تشدده، ويضمن استمرار منصبه، وقوة تحالفه، فقد اطمأن إلى متانة الحلف، وركن إلى صدق الحليف وإخلاصه، فلا خوف من اهتزاز، ولا قلق من انقلاب، ولا تغيير لأصول وقواعد اللعبة، (فإسرائيل) ستبقى الأقوى والأكثر تميزاً وتفوقاً، بضمانة الرئيس الأمريكي "الديمقراطي" الأسود (باراك أوباما)، فإن كان وعد (بلفور) مشـروطاً ومحدوداً، أما وعد (أوباما) مطلقٌ لا حدود لـه، ومفتوحٌ لا نهايـة لـه، إذ ربط وجود بلاده بوجود (إسـرائيل)، وأكد لجيلها الشـاب أنها سـتبقى ما بقيت الولايات المتحدة الأمريكيـة، وأنها لن تكون وحدها في مواجهـة الأخطار التي تُحدق بها..!!

فهل تضيع فلسطين بين الوعدين، الإنكليزي القديم والأمريكي الجديد، ويخسر الفلسطينيون مع (أوباما) كما خسر الشريف حسين مع (مكماهون)، ونبقى ضائعين حائرين، ننتقل من وعدٍ إلى أمل، ونحتار بين كاذبٍ ومراوغ، ونعيش وهم الدولة وسراب العودة، ونخسر يوماً بعد آخر، أم نركن إلى قوتنا، ونُراهن على إرادتنا، ونعمل لتحقيق وعد ربنا، ولا نهاب حلفهم، ولا نخشى قوتهم، ولا نتردد عن مواجهتهم، ولا نُهزم أمام باطلهم، ولا نستسلم لزيفهم، ولا نُصدق كذبهم، ولا نخضع لظلمهم، ولا نعترف بكيانهم...، فنحن بإرادتنا أقوى، وبقيننا أقدر وأصلب، وبعزيمتنا أصدق، فالله معنا، وشعوبنا اليوم تملك قرارها، وتعرف مسارها، وتتمتع بإرادتها، وتؤمن بحتمية المعركة مع عدوها، وتُدرك يقيناً أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.