الإدراك الحسي: المادة الأولية

د. عبد الرحمن الحطيبات

للمعرفة الكونية في القران الكريم

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

يُعبِّر القرآن الكريم عن الحواس بأنَّها من نعم الله - تعالى - التي تستحقُّ الشكر والعمل بها لإدراك الغاية المرجُوَّة لها للآخرة، وتعطيلها عن فهم الغاية من الخلق والاستجابة للحق يَجعل صاحبها في مقام البهيمة، حواسها لحياتِها البيولوجيَّة وبقائها حيةً فقط. ولقد اقترن القلب والفؤاد بها على أنَّها كلها وسائلُ للمعرفة وطرق لتحصيل العلم؛ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26]، ولقد أكمل القرآن الإدراك الحسي بإدراك آخر هو إدراك القلب والفؤاد. وقد مُنِحَت الحواسُّ في القرآن الكريم جانباً كبيراً من الأهمية يوجب على الإنسان أنْ يراعي هذه الأهمية

 وعليه فإن معطيات الحس في القرآن هي المادة الأولى التي تعملُ عليها وسائلُ الإدراك الأخرى، أو بعضها على الأقل.

 إن الحِسُّ لغة هو الصوت الخفيُّ، وهو أول العلم المدرك بحاسته، تقول: أحسست بالخبر، وحسست الخبر: أيقنت به، وحواس الإنسان: المشاعر الخمسة، وهي: الطعم، والشم، والبصر، والسمع، واللمس.

إن الإدراك الحسي فهو هو عبارة عن تنظيم للإحساسات وإضفاء معنى عليها و هو قدرة المرء على تنظيم التنبيهات الحسية الواردة إليه عبر الحواس المختلفة ومعالجتها ذهنياً في إطار الخبرات السابقة والتعرف عليها وإعطائها معانيها ودلالاتها المعرفية المختلفة..

لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يزود الإنسان بأجهزة تقوم بوظائف هامة في عملية الإدراك الحسي وتساعد هذه الأجهزة الإنسان على إدراك العالم الخارجي بالحواس الظاهرة ( كالسمع، البصر، الشم، الذوق، الحواس الجلدية , وتساعده على إدراك العالم الداخلي عن طريق الإحساس لما يحدث في البدن من اختلال في الاتزان العضوي والكيميائي كالجوع ، العطش فيقوم بسد النقص في أنسجة البدن وإعادته إلى حالته السابقة من الاتزان العضوي والكيميائي.

ولقد كرم الله الله وميزه بوظيفة إدراكية هامة تميزه من غيره إلا و هي " العقل" والذي يتميز به في إدراك بديع خلق الله للكون، وللإنسان نفسه على مستدلاً بذلك على وجود الخالق I. وبالعقل يستدل من خلال الأشياء المحسوسة على الأشياء المعنوية فيفكر في المعاني المجردة كالخير والشر والفضيلة والرذيلة، و بالعقل يستدل الإنسان على المبادئ العامة من الملحوظات والتجارب.

وتقريرً للحقيقة العلمية التي لا شك فيها فإن قدرة هذا " العقل الإنساني " بالاشتراك مع الحواس قاصرة ومحدودة المعرفة وبخاصة في الأمور الغيبية التي لا يستطيع أن يدركها بحسه وعقله, أضف إلى ذلك أن تفكير الإنسان معرض للخطأ فقد تحدث ظروف تعوق الإنسان عن التفكير السليم. فالحواس والعقل وسيلتان يستعين بهما الإنسان في الإدراك والمعرفة ولكنهما غير كافيتين وحدهما للوصول للمعرفة اليقينية لذلك كان لابد أن يرسل الله الرسل للناس ويختصهم بالرسالات لمعرفة الله عز وجل ولتعريف الإنسان بنفسه وما يحقق سعادته في الدنيا والآخرة

ومن خصائص القرآن الكريم الإيجاز البليغ الذي يكتفي بالتلميح والإشارة إلى الحقائق العامة والتغاضي عن التفصيلات، فقد ذكر القرآن بذكر السمع والبصر و الحواس الجلدية من أدوات الإحساس لأهميتهما القصوى في عملية الإدراك الحسي, ولأن في ذكرهما ما يستدل به على أهمية جميع الحواس في عملية الإدراك الحسي.

ومن أوجه اهتمام القرآن الكريم بحاستي السمع والبصر أن مادة الفعل سمع ومشتقاته وردت فيه (185) مائه وخمس وثمانين مرة ، ومادة الفعل بصر ومشتقاته (148) مائه وثمان وأربعين مرة ، وقد قرن المولى عز وجل في (15) خمس عشرة آية كريمة السمع والبصر والفؤاد وفي هذه الآيات جميعها تقدمت كلمة السمع على البصر. قال الله تعالى: ] وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون [

وقد تقدم ذكر السمع قبل الإبصار في القرآن الكريم في مواطن كثيرة :

1.    إن السمع أهم من البصر في عملية الإدراك الحسي والتعلم وتحصيل العلوم ، فمن الممكن للإنسان إذا فقد بصره أن يتعلم اللغة ويحصل العلوم ولكن إذا فقد سمعه تعذر عليه تعلم اللغة وتحصيل العلوم ، ومما يدل على أهمية السمع في القرآن ذكره وحده مع العقل للدلالة على العلاقة الوثيقة بينه وبين العقل.

قال I: ] وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [

كما يذكر القرآن السمع بمعنى الفهم والتدبر والتعقل.

قال I: ] وأنا لما سمعنا الهدى ءامنا به [

2.    إن أول حاسة تتكون للجنين في بطن أمه حاسة السمع لذلك فهي تعمل بعد الولادة مباشرة بينما يحتاج لفترة من الزمن ليرى الأشياء بوضوح.

3.    إن حاسة السمع تؤدي وظيفتها باستمرار دون توقف بينما حاسة الإبصار قد تتوقف عن أداء وظيفتها إذا أغمض الإنسان عينيه أو إذا نام ، كما يستطيع الصوت الشديد أن يوقظ الإنسان من نومه كما ذكر الله I قصة أهل الكهف أنه ضرب على آذانهم حتى يستغرقوا في النوم فلا يوقظهم صوت ، قال I: ] فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً [.

4.    إن حاسة السمع تسمع في كل الأوقات سواء في الضوء أو في الظلام بينما حاسة البصر لا ترى إلا في الضوء.

وقد ورد ذكر السمع في القرآن مفرداً بينما يذكر الإبصار في معظم الآيات بصيغة الجمع ولعل ذلك يفسر بكون باستقبال حاسة السمع للأصوات الصادرة من جميع الجهات بينما لا ترى العين إلا إذا اتجه الإنسان ببصره نحو الشيء الذي يريد أن يراه , أضف إلى ذلك أنه إذا حدث صوت في مكان يجتمع فيه جمع من الناس فإنهم جميعاً يسمعون نفس الصوت تقريباً بينما هم يرون الشيء الواحد من زوايا مختلفة وبذلك لا تكون رؤيتهم للشيء الواحد.

لقد استخدام القرآن الكريم الصور الحسية لتجسيد المعاني المجردة وتقريبها إلى الأذهان ،لأنها تعد من أهم الأساليب التربوية التي تثير في النفس الحيوية ،وتشد المرء إلى الحدث وتوقظ انتباهه .

قال تعالى )قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ( ]الملك:23[.

 الأذن والسمع في القرآن الكريم:

الأُذن - بضم الألف -: هي عضو السَّمع في الإنسان والحيوان، واللفظ مؤنث؛ قال تعالى: {وَلَهُمْ آَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]، فالأُذن هي السامعة[2]؛ لذا قيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه: هو أُذُن.

 ويعبر عن السَّمع بأنه قوة الأذن، والأذن أيضًا، وما وَقَر فيها من شيء، وهو قوة واحدة، ولها فعل واحد، ولهذا لا يَضبط الإنسان في زمان واحد كلامين، فالأذن محله، ولا اختيارَ فيه، فالصَّوت من أيِّ جانب كان يصل إليه، لا قُدرة له على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض، بخلاف قوة البصر.

ويعبر عن الفهم والطَّاعة بالسمع، وهذا هو المفهوم من دلالته المعرفيَّة؛ أي: إدراك الأصوات وفهمها، فلا يلزم إدراك الصَّوت فهم المطلوب؛ {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]؛ فلما بيَّن تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرُّسل، وردهم لذلك بالتقليد، أخبر تعالى أنَّ مثلهم - عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان - كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول داعيها ومناديها، فهم يسمعون مُجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنَّهم لا يفقهونه فقهًا ينفعهم، فلهذا كانوا صُمًّا، لا يسمعون الحقَّ سماع الفهم والقبول، عميًا، لا ينظرون نظر اعتبار، فكل نفي للسمع في القرآن هو نفي للاستجابة لما سمع بالطاعة والانقياد له، وكل إثبات هو بمعنى الفهم من ذلك؛ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]، وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]؛ أي: فهمنا وهم لا يستجيبون بالعمل لموجب ما سمعوا، فإذا لم يعملوا بموجبه، فهم في حُكم من لَم يسمع؛ فقال تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].

أمَّا القول بأنَّهم لا يفهمون، فهذا فيه نظر؛ لأنَّ قيامَ الحجة لا يكون إلاَّ بعد الفهم، غَيْرَ أنَّ الاقتناع لا يشترط؛ لقولهم في الآية: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]؛ أي: فهمنا ولم نأتمر.

فخصائص السَّمع الممدوح في القرآن الكريم هي: الفهم لما يُلقى، والاستجابة للأوامر، والانتهاء عن الموانع، فإذا تخلَّف الفهم، أو الطاعة والاستجابة، كان النَّفي للسمع، وهذا في حق المؤمنين والكافرين.

فالإعراضُ عن الحق هو إعراضٌ عما سُمع، فيكون في حكم الأصم؛ لذا قال عنه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7][1][3]، فهو سمع لكن لم يستجب، فكان في حكم من لم يسمع؛ لأنَّ الغاية من الخطاب لم تتحقق، فاستوى وجوده بعدمه، حال مقابلته بالرَّفض والعصيان؛ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198]، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]؛ فالأول هو نَفْيٌ لإدراك الأصوات في حقِّ الموتى، والثاني نفيٌ للرد من طرف الموتى، فكانت النتيجة أنَّهم لا يسمعون.

وتعطُّل السمع - سمع الاستجابة والهداية التوفيقيَّة - إنَّما يكون لتعطل مَحل الإدراك، وهو القلب؛ لذا جُمعا في الختم في كذا آية، وأُفرد البصر بالغشاوة والغطاء، بل صرح بذلك في آية: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]؛ أي: لا يسمعون ما ينفعهم للهداية؛ بل ما يقيم عليهم الحجة فقط، فهم يفهمون ويُدركون بالسمع ما قيل؛ لكن قلوبهم لا تقتنع، وصدورهم لا تنشرح للحق، فاستوى السَّمع والصمم؛ لأنَّ الاستجابة منتفية، وإن كان الإدراكُ للأصوات، وفهم الكلام قائم؛ فالعمل بموجبه مُتخلف عنه، وهذا قطع للغاية من الخطاب بالأمر أو النَّهي؛ لذا قال تعالى لنبيه عن موقف الناس من دعوته: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]؛ أي: يستجيبُ لدعوتك، ويلبِّي رسالتك، وينقادُ لأمرك ونَهيك، الذين يسمعون بقلوبهم ما ينفعهم، وهم أولو الألباب والأسماع والأبصار.

والمراد بالسَّماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلاَّ فمجرد سماع الأذن يشترك فيه البر والفاجر.

فكل المكلفين قامت عليهم حُجة الله - تعالى - باستماع آياته، فلم يبقَ لهم عذر بعدم القَبول؛ إذ حقيقةُ السماع تنبيه القلب على معاني المسموع، وتحريكه عنها؛ طلبًا وهربًا، وحبًّا وبُغضًا، فهو حادٍ بكل أحد إلى وطنه ومألفه.

العين والإبصار في القرآن الكريم:

البصر: من أهم عمليَّات العين: البصر، ويرادُ بما يرادفه وهو النَّظر، والرُّؤية، والمشاهدة، والملاحظة، والاطِّلاع، فالبصر هو إدراك العين، ويطلق على القوة الباصرة، وهو قوة مُرتَّبة في العصبين المجوفين، التي من شأنِها إدراك أشباح الصور، بانعكاس الضوء فيها؛ إذ البصر هو حاسة الرُّؤية.

وَرَد في القرآن مع ما يتعلق به من العمليَّات في "274" موضعًا؛ ليدلَّ على العلم القوي المضاهي لإدراك الرُّؤية، فيقال: بصر بالشيء: علمه عن عيان، فهو بصير به.

ما يهمنا هو العمليَّات المعرفية؛ أي: العين الجارحة؛ كما في قوله - تعالى -: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]، {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، فمُهمة العين في القرآن هي "الرُّؤية"؛ {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13]، و"الإبصار"؛ {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، و"المشاهدة"؛ {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61].

 قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم: 5]، {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38 - 39]، {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].

 وبيان أنَّ العين هي أداة الإبصار في {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، وفرق بين النظر والبصر؛ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ فالنظر هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته، ولما كانت الرُّؤية من توابع النظر ولوازمه غالبًا، أُجْرِيَ لفظُ النظر على الرُّؤية على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب، كما ورد في حكاية عن طلب موسى؛ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]؛ فكان الردُّ: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، والرؤية إذا أضيفت إلى الأعيان كانت بالبصر، وتطلق على المنام والوهم، فالبصر خاص بالمعاينة والمشاهدة بالعين، فلازم البصر الإدراك؛ وهذا غير الرؤيا التي قد تكون مع عدم إحاطة؛ لذا قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وهذا في الدُّنيا والآخرة؛ "أي: لا تُحيط به الأبصار، وإن كانت تراه وتفرحُ بالنَّظر إلى وجهه، فنفي الإدراك لا ينفي الرُّؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة، فلو أراد نفيها، لقال: لا تراه الأبصار، ونحو ذلك.

 عودًا على آية الأعراف؛ حيث فرق بين النَّظر والبصر، فالكفَّار يحدقون في النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غير أنَّهم لا يبصرون؛ أي: لا يدركون فضله، ولا يستشعرون كرمه عليهم، ولا ينتفعون بالنظر إليه، ولا بالهدى المرسل به.

 

وللبصر صفات عدة في القرآن هي:

البصير من أسماء الله، وهو للأعمال الظَّاهرة لنا، يقترن كثير بالسميع والخبير، والله - تعالى - سمى نفسه بصيرًا، ووصف نفسه بأنه بصير لأعمال الناس، وورد في القرآن وصفه الرُّؤية؛ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، كما وصف بالنَّظر؛ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]. ضد البصير الأعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الرعد: 16].

الزيغ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]؛ أي: ما مال بصره، فهي رُؤية عين، وليس من خداع البصر.

الرجوع: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3].

الانقلاب: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]، وهنا وصف بالحسرة.

الحِدَّة: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].

الشخوص: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]؛ أي: لا تطرف من شدة ما ترى من الأهوال، فشخوص البصر يدُلُّ على رُؤية أمر جلل عظيم الأهمية، كما يدل على فزع وانزعاج القلب.

العمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

الخشوع: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 9]، وهذا خوف مع هيبة واحترام.

السُّكْر: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15]؛ أي: أصابها سُكر وغشاوة، فهي ترى ما ليس موجودًا.

التقلب: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وذاك من الحيرة والتيه؛ بسبب الشبهات.

الصرف: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47].

الطبع: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108].

الغض: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31].

إن النظر هو التحديق لإدراك الصُّور، في أول مراتب الإبصار، ثم تليه الرُّؤية، وهي من لوازمه؛ {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]. وقد تقرَّر الشروع بطلب النظر في مواطن كثيرة، إمَّا على جهة الوجوب، وإمَّا على جهة الندب. كما تقرر النَّهي عن النظر بها، وإيجاب غضِّها، أو النَّدب إليه في مواطن كثيرة، وإباحته والعفو عنه في مواطن كثيرة, واستعمال النَّظر في القرآن كان بالإرشاد إلى التأمُّل، فهو تقليبٌ للبصر مع استغراق وقت؛ إذ يُقاربه في المعنى الانتظار، فلا يكون النَّظر بسرعة بل بتمهل؛ لأنَّ الغاية من تقليب البصر وتحديق العين: الوصول إلى إدراك المنظور إليه؛ لتحصل منه الرُّؤية، وقد يراد به التأمُّل، والفحص، والمعرفة الحاصلة بعد الفحص؛ وهي الرويَّة، واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة. فيقال: نظرت إلى كذا، إذا مددت طرفك إليه، رأيته أم لم أره، ونظرت فيه: إذا رأيته وتدبَّرته، ونظرت له: رحمته، وإليه: رأيته، وعليه: غضب عليه، ونظره: انتظره..

فنلاحظ من الآية كيف ربط الله بين السمع والبصر والفؤاد ، فالسمع وظيفة لعضو هو الأذن، والبصر وظيفة لعضو هو العين وفي اللسان العربي لا تعطف إلا الصفات بعضها على بعض أو الموصوفات بعضها على بعض، وبما أن السمع والبصر وظائف لأعضاء ثم عطف الفؤاد عليهما، فنستنتج منه أن الفؤاد وظيفة لعضو وليس بعضو؛ لأن الفؤاد هو الإدراك الناتج عن طريق الحواس مباشرة وعلى رأس هذه الحواس السمع والبصر، وهما المقدمات المادية للفكر الإنساني.

لذا قال رب العزة والجلال عندما رمت أم موسى ولدها في اليم بيديها ورأت ذلك بأم عينيها قال تعالى )وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً( ]القصص:10[، أي أن المقدمات الحسية عند أم موسى جعلتها غير قادرة على التفكير فأتبعها بقوله تعالى )إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ( .

وإن هناك إشارات في مراحل خلق السمع والبصر إلى الوظيفية التعليمية المعلقة بحجم وظيفة كل من السمع والبصر في العلمية التربوية، فمن جهة الوظيفة فإن حاسة السمع أهم من حاسة البصر في تنمية القدرات العقلية لدى الطفل

أما الملحوظة الأخرى التي تبين مدى أهمية الوظيفة التعليمية للسمع ، فإن أكثر العلماء والمربين ودراسات الباحثين وملحوظات ومشاهدات المتهمين تثبت أن نسبة التعلم المعتمدة على السمع أكثر من النسبة التي تعتمد على البصر فالدارس لحاستي السمع والبصر يجد أن استخدام حاسة السمع أكثر استعمالاً في عمليتي التعليم والتعلم على مر العصور ، حتى اختراع الطباعة إلى عهد قريب ،كانت الكلمة المسموعة هي المصدر المطلق في نقل المعارف والعلوم وهي التقنية الأولى بلا منازع في التواصل والتفاهم بين الأفراد والجماعات والشعوب .

وتنبع أهمية السمع من كونها إحدى الحواس الخمس الرئيسة التي تكتسب عن طريقها المعرفة بنسبة ما يقارب 13% وأثبتت كثير من الدراسات

وتعد حاسة السمع إحدى وسائل تلقى الرسل للوحي من السماء . قال تعالى )وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى( [طه: 13]، والاستماع للحق علامة من علامات أهل الإيمان قال تعالى على لسان المؤمنين )رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا( ]آل عمران:193[

وإن الاستماع للحق سبب من أسباب نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة قال تعالى )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ( ]الأعراف:179[، إن السمع يمكن الإنسان من اكتساب معارف خبرها الآخرون ، لكن البصر أكثر تأثيراً لأنه يمكن الإنسان من إدراك المعرفة بصورة مباشرة

بينت بعض الدراسات الفسيولوجية الحديثة أنه توجد في بشرة الإنسان خلايا كثيرة مختلفة الشكل وهي متخصصة لاستقبال أنواع معينة من الإحساسات ( الحرارة، البرودة، اللمس، الضغط، الألم ).

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود أعضاء الحس الخاصة بالإحساس بالألم في بشرة الإنسان، قال I: ] إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غير جلودهم ليذوقوا العذاب [(89)

أشارت الآية إلى وجود الخلايا الحسية المتخصصة في الإحساس بالألم في الجلد ، كما بينت الدراسات الفسيولوجية الحديثة أنه إذا احترق الجلد وزالت هذه الخلايا انتفى الإحساس بالألم لذلك يبدل الله الكفار جلوداً جديدة بخلايا حسية جديدة لكي يستمر إحساسهم بالألم.

أشار القرآن إلى حاسة اللمس كأداة يستعين بها لتحسس الأشياء للتعرف عليها، قال I: ] ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بإيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [

إن للإدراك الحسي من الناحية النفسية تأثيراً وتفاعلاً بين مؤثر ومتأثر ، ومحيط الإنسان وبيئته يعجان بمنبهات لاحصر لها ، وكل منبه يؤثر في حاسة محددة من حواس الفرد ، وهذا فيما يتعلق بالإدراكات المباشرة التي نتعرض لها كلنا في حياتنا اليومية ، غير أننا نلاحظ أحياناً أن بعض الناس يستطيعون إدراك أشياء خارجة عن إطار مايؤثر في حواسهم بشكل مباشر فهم يدركون بقوة نفوسهم لابحواسهم فحسب، هذه الظاهرة التي يتمتع بها بعض الناس يطلق عليها في علم النفس : " الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس " ويسمى أحياناً " الإدراك الحسي الفائق " لأنه يتجاوز حدود الحواس التقليدية وهو موهبة إلهية وكرامة ربانية يمنحها الله لعباده وهم الصفوة من البشر.

وقد ذكر القرآن هذا النوع من الإدراك في قصة يعقوب عليه السلام مع ابنه يوسف حينما شم ريح ابنه يوسف حينما تحركت القافلة التي تحمل قميصه من أرض مصر بعيداً عن المكان الذي يوجد فيه يعقوب عليه السلام بمسيرة عدة أيام ، قال I: ] ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون [(90)

وما يجدر التبيه عليه والوقوف عنده أنَّ قوة الحواس ليست مطلقة، والثابت محدودية العقل، لأن كثيراً من الأشياء قد يخدع بها الإنسان أو لا تقع في مجال القدرة البشرية, و لكن هذا لا ينفي وصولها إلى اليقين، فالله - تعالى - حاجَّ عبادَه بأنْ منحهم الحواس والعقل، فدَلَّ على أنها مراكز إثبات اليقين في جميع طبقات الناس؛ إلا من رفع القلم عنه؛ لأنَّ الرِّسالة الإلهية للناس كافة للناس الغبي والذكي ، والكبير والصغير.

فالحواسُّ نسبية، وفي حالاتِها العادية هي ناقلة لما تصل إليه بِحَسَبِ قدراتها التي خلقت لها، وكُيِّفت مع الوسط الكوني في مجال الشهادة، وإدراك الحقيقة لا يكون إلا بها، سواء باستعمالها معًا، أم الاستعانة بوسائل مُساعدة من أجهزةٍ وآلات.

 فالمعرفة الحسية اليقينيَّة هي التي تقدِّم شهادةَ الحسِّ، مؤكِّدة قاطعة عندما تتواتر شهادات الحس هذه، وتتفق مع الحواس الأخرى، ولا تتعارض مع أصول العقل وقوانينه، أمَّا عندما تنزل عن هذا المستوى، فإنَّ قيمتها المعرفيَّة تتراجع إلى ما دونها حتى آخر مرتبة الظَّن المرجوح. ونخلص إلى القول إلى أن إن الإدراك الحسي عمليات إجرائية تتم عبر الحواس الإنسانية وتتصل بإجراءات أخرى تعضد بعضها بعضا لتتكون عنها بنى معرفيه وخبرات إدراكية تنتج عنها المعرفة الإنسانية ، تعتمد المعرفة الإنسانية بشكل كبير على الإدراكات الحسية لأن الحواس ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية وقد لفت القران الكريم النظر إلى توظيف الحواس لتزود الإنسان بمعارف كثيرة حيث ظهر التوظيف في آليات عديدة منها التدليل بالحسوس على المجرد وتكوين أطر عامه للمكتسبات الإدراكية الحسية وإبراز أساليب تعليمية معينة, وقد تنوعت أساليب القران الكريم في توجيه الحواس الإنسانية لتحقيق الإدراك والمعرفة منها توجيه الإدراك الحسي نحو تتبع وتنظيم وانتقاء ما ينبغي أن يتم إدراكه والتعرف عليه وإبراز مرجعيات كثيرة تغذي الإدراك الحسي بصوره متكاملة وتوعية الإنسان إلى الاستخدام السلبي للمدركات الحسية كما أن الإدراك الحسي في القران الكريم يحقق آثاراً تربوية تظهر مؤشراتها في معتقد الإنسان وفي تهذيب نفسه وسلوكه بالإضافة إلى كيفيات تعليمية كمهارة الاستماع وأساليب التكرار التعلمي .

فالله - تعالى - منح عباده الحواسَّ؛ لينتفعوا بها على قدر ما مَنَحَهم من قدرة ومجال يدركون فيه، وهو مُشترك بين جميع الناس، ثُمَّ يقوى من فرد لآخر ومن حاسة لأخرى، غير أنَّ الطاقة البشرية لا تقتصر على الحسِّ دون غيره طريقًا للمعرفة؛ لأنَّ ذلك يدخل في مزالق عدة، فالله - تعالى - أثبت الحجية على عباده بأنْ مَنَحَهم ثلاثَ طرق وأدوات للمعرفة؛ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

المراجع

-        "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، محمد إقبال، ترجمة: محمود عباس، دار الترجمة: القاهرة، ط2، (د.ت)، ص146

-         "تأمُّلات حول وسائل الإدراك في القرآن الكريم"، محمد الشرقاوي، ص12،

-        درء تعارض العقل مع النقل"، ابن تيمية، (5/134)،

تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية"، إبراهيم عقيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط1، 1994، ص367، "

http://www.alukah.net/Sharia/0/7380/#ixzz2NR6EFJFt