المقامة المقامية
عبد الرحيم صادقي
حكى يحيى بن جعفر قال: استُفتِي حنظلة الأحنف في المقامة، فقال حرفٌ بهيّ له هامة. حَوى دُرر المعاني، لا يسلس بالأماني. مجمع العلوم، ولِقاح الفهوم. تُجْلي الهموم، وتُبرئ الكُلوم. وجِماعُ الفنون، بلا مُيون. لها راوٍ وبطل، ذو بَدْهٍ وخطَل، يُفحِم من سأل. فبطلُ الهمذاني، حَسَنِ المعاني، لَسِنٌ ذو بيان، وبلاغة وبرهان. احترف الكُدية، يَنشُل المال بلا مُدْية. قد لبس لكل زمان لَبوسه، يُقْبِل على الأمير ليَبوسه، بحكمة ووقار، ونادرٍ مما يَختار. فإن قضى وطره، وأمِن مكرَه، أظهر شرّه، وجلّى سرّه، فتراه يلعن الأمير، ويلغُو كبائع حصير. فهو بين مَكر واحتيال، مُقْدِمٌ استسهل المحال. إن شاء وعظ، وإن شاء فظظ.
قال عليمٌ بالأخبار، يحفظ الأشعار، له رواية، وفهم ودراية، وحظّ من المنثور، وولَع بالمأثور: المقامة وما أدراك ما المقامة! فرائدُ تَطرد السآمة. خاض لجّتها النّبهاء، واحتفى بها البلغاء. منهم الحريري، حُجّة وهُمام، كراوِيه ابن هَمّام. وابن الصيقل الجزري، والعبقري الزمخشري. وابن الألوسي وابن الوردي، وابن الجوزي والسعدي. والخفاجي والسويدي، وصلاح الدين الصفدي، صاحب "لوعة الشاكي ودمعة الباكي". وقد تأثَّرَ ابنَ العطار، صاحب الآثار، الذي ضاعت مقاماته، وانغمرت كراماته. وللشاب الظريف، من الكلام اللطيف، "مقامات العشاق"، حوتْ ما راق. ثم القلقشندي، وابن القواس الحلبي، وله "رياض الأزهار ونسيم الأسحار". والحنفي والسيوطي، وابن إلياس والواسطي. أما التي للسيوطي فخريدة في الأدب، تُفيد من طبب. وهي كما قيل "تحفة الأديب، وبغية الطبيب، وشفاء السقيم، وتذكرة العليم، من آداب زاهية، وعقاقير شافية، وحديث وتفسير، وتحرير وتحبير". فللّه درُّه، ما نفع بِرُّه! وأما الواسطي، المعروف بالديواني، فأنشأ "المقامة الواسطية المغايرة للحريرية". وذلك حين بان له أن الحريري قد نقض قاعدته، ورفض عادته، وأهمل ما به اشتهرت واسط، من علم القراءات، واختلاف العبارات، وتسلسل الروايات. فاسْمَعْهُ يقول: "فابتدرتُ حينئذ لأخذ الثأر بعزمة رِفاعية، وانتدبتُ لكشف العار ببديهة واسطية". ومنهم رُكن الدين الوهراني، وابن شرف القيرواني. ولهذا "مسائل الانتقاد"، أمتعَ فيها وأجاد. ولابن دريد "المطر والسحاب"، زبدة الآداب، فيه من غريب الحديث، ما يستحثّ الحثيث، وجميلِ التُّحف، ولطيفِ الطُّرف. والوهراني في "البغدادية" يقول: "لما تعذرت مآربي، واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مُذهبات الشعر بضاعتي، ومن أخلاف الأدب رضاعتي". ولابن ناقيا مقامات، كثُر فيها الرواة. بطلُه اليشكري، يطاول الإسكندري. ثم إنهم قد نسبوا مقاماتٍ للغزالي، ولا يضاهي المقامةَ إلا الأمالي.
قال حنظلة الأحنف: أراك أغفلت السرقسطي، مُنشئ "المقامات اللزومية"، المرصعة بالبيان، وفصيح اللسان. وهي مرآة عصره، وأثر دهره. يقول فيها عن نفسه:"أتعب فيها خاطره، وأسهر ناظره، ولزم في نثرها ونظمها ما لا يلزم، فجاءت على غاية من الجودة والله أعلم". وأزِيدُ أحمدَ المعظم، العالم المقدّم. وانظرِ "الاثنتي عشرة"، ترَ إكرامَ الله البررَة. ولمقاماته حكاية، ولكل عظيم بداية. يقول أحمد المعظم: "جرى ببعض الأندية ذكر المقامات التي أنشأها الأستاذ الرئيس أبو محمد الحريري رحمه الله! فبالغوا في وصفها وإطرائها، ومدحها وثنائها، حتى قال بعضهم لو اجتمع الناس على أن ياتوا بمثلها لا ياتون بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فأنكرتُ عليه هذا الغلو، غيرة على القرآن الذي يستحق العُلو. فقال لي هذا المبالغ فاتِ أنت بعشر مقامات، مثلها مُفترعات، أو عشر حكايات مثلها مخترعات. وأمهلَني مليّا، فجئت بما سال شيئا فريّا. في مدة يسيرة، وأزمنة قصيرة". لكنه اعترف بتقصيره عن شَأوِ مَن سبق، وكفاه فخرا أنْ قد صدق. ثم قال: "ليس ما لا يدرك كله يترك كله. ولا بد مع ذا من ذيا، والدبران تلو الثريا. وقد ذكرتُ فيها طرفا من طُرف الظرفاء، ومُلَح الأدباء والفضلاء، ومن لُباب كل باب، ما يستانس به أولو الألباب". وعزاها إلى رواة كُثر، كالقعقاع بن زنباع، واللجلاج بن لاج، والصلصال بن الدلهمس، والعرعار بن عرعرة، ودغفل بن أبي زنفل. وأنهى المقامات بفخر وحقّ له، لم يُحرَمْ من فُصْدَ له. لكنه عاد وأثنى على الحريري، وقال "مِن حريره لبستُ هذا اللباس، وتدرّعتُ بهذا الباس". رحم الله الجميع، رحمة تَبلغ البديع!
قال يحيى بن جعفر قلت: فمن تعرفون من المتأخرين؟ قال حنظلة الأحنف: ممن أجاد من المتأخرين، اليازجي في "مجمع البحرين". وتفردّتْ "مقامات القَرْني"، ببيانٍ يُغْني. إذْ غلب عليها النّصح، وعلَتْ على السّفح. وقد جاءت كما أرادها، "محلاة بالفوائد، مزينة بالقلائد، متوّجة بالفرائد، مزدانة بالشوارد"، ولله درّه إذ يقول: "فإن عثر جواد بياني، وتلعثم لساني، فالعيب من زماني، فما أدركت حسّان، وما صاحبت سحبان، وما دخلت على النّعمان، وما لقيت صناعَ الألفاظ، في سوق عكاظ، ولكنني مع أقوام، على الأدب أيتام". وبمثلِ ذلك اعتذر اليازجي إذ قال: "إنني قد تطفلت على مقام أهل الأدب، من أئمة العرب، بتلفيق أحاديث تقتصر من شَبَه مقاماتهم على اللقب". ثم تراه بعدُ يقول: "وقد تحرّيت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد، والغرائب والشرائد، والأمثال والحكم، والقصص التي يجري بها القلم، وتسعى لها القدم". ولأحمد الشدياق، "الساق على الساق"، أنحى فيها بالملامة، على أعراف المقامة، وهزأ بالقوم، وأكثر اللوم. وأنشأ المويلحي "حديثَ موسى بن عصام"، ولابنه "حديثُ عيسى بن هشام"، طائر الذِّكْر، رصين الفكر، ذائع الصّيت، فيه كَيْت وكَيْت. فنِعم الرجلان الأب والولد، هذا الشبل من ذاك الأسد. راويه عيسى، وبطلُه الباشا. ثم الأسواني، ومحمد البرواني. ومقامات بيرم لا تُبارَى، في الفَكيهة لا تُجارَى.
أمّا مَقامِيّو هذا الزمان فجمٌّ غفير، أكثرهم طِفليل، لا في العير ولا في النفير. إذا قال ما دريتَ أأذّنَ أم أقام، كحاطب ليل أو رامي سهام. لكن مع الخواطئ سهمٌ صائب، ورحم الله العبد التائب! فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمصرُّ على الذنب ما أجهله! ولا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. ومن تجنَّبَ الخَبارَ أمِنَ العِثار. وقليل هو ابنُ بَجْدتها، والأمور على سُنّتها. والناس كالإبل المائة، لا تكاد تجدُ فيهم راحلة.
قال يحيى بن جعفر: وبينا الأدباء في تحاور، وأمرهم بينهم تَشاوُر، إذ جاء مِن بريدِ الزمخشري، جوابٌ يقطع لسان المفتري. يقول فيه الأديبُ الأريب، صاحبُ الفهمِ اللبيب: مقامتي وعظٌ بلا بطل، لا راوٍ ولا دجَل. أبتغي بها النصحَ والرشاد، سائلا المولى الهدى والسَّداد. أقولُ بلسان عربي مبين، فيبلغُ قصديَ الناسَ أجمعين. للهمذاني بيننا فضلُ السّبق، وللحريري بعدَه حَبْكٌ ورَتْق. وجماعة رامُوا الفنَّ، وقد أدرك مَن صَبَر، منهمُ السابق والمقتصد ومَن قَصَر.
قال أديبٌ مِمَّن حضر، سمع المقالَ وخَبَر: ما قولُكم؟ وما النظر؟ أليس للمقامة حدٌّ يُعرَف، وقَدْرٌ يُقدَر؟ فردَّ صاحبٌ له في حَذَر: بلى، للمقامة أركان لمن بَصَر. قال قائل: عُدَّها نسمعْ! علَّ المُنكِر يَقنَع. قال: جزالةُ لفظٍ وسجع، وفصيحُ قولٍ لا رَقْع. على طُرَف ومُلَح، وكلامِ جِدٍّ كَمَن نَصَح. ثم هزلٌ كهزلِ مَن نَسِيَ وسَهَا، ونوادرِ مَن عَبَثَ ولَهَا. حتى يُقال ضاعت هيبة القائل، ثم جِدٌّ يستقيم له الغُصن المائل. قد يجمع نثرا إلى قريض، مِن بلاغته يُشفى المريض. لكنَّ الكلام في مُجمَلِه، وإن تقلَّبَ كما فعل ابن هشام ببطَلِه، لا يخلو من حِكَم وفائدة، أين منها الطعام على المائدة؟ إذْ هو تقويمُ رائدٍ لا كلام أَبْلَه، والرائد لا يكذب أهله. والكلام في ذا يطول، فاستمعْ للزمخشري يقول، في "مقامة الرضوان"، مُحذِّراً غضبَ الرحمن: "أيها العاقل، لا يعجبنّك هذا الماءُ والرَّونق، فإنهُ صفوٌ مخبوٌ تحتهُ الرَّنق، لا يغرَّنكَ هذا الرواءُ المونق، فوراءهُ البلاءُ الموبق".
قال يحيى قلت: فهل دعاه إليها داع، وهو العالم ذو الباع؟ قال حنظلة: مُرَوِّعٌ روَّعه، ونفّر طائره وفزّعه. رأى فيما يرى النائم، "كأنما صوّتَ به من يقول له: يا أبا القاسم، أجل مكتوب، وأمل مكذوب". فقَطعَ على نفسه عهدا، وكان قولُه جدّا، إنْ عافاه الله مما ابتلاه، أن يٌتمَّ الذي بدأ، فوفّى وما تلكّأ. حتى أتمّ خمسين مقامة، قبل الحسرة والندامة. عديدَ ما أنشأ مَن قَبْله، وذاك عُرفٌ قَبِله.
قال يحيى بن جعفر: ولقد طربتُ لكلام القوم غاية الطرب، كأني بعَنِيّةٍ تشفي الجرَب. فاشرأبَّتِ الأعناق تستزيد، وانفضَّ كل دخيلٍ وبليد.