الدولة الصفوية الثالثة في العراق
علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
( لتكن إنتفاضة الأنبار فوق أي إعتبار).
التأريخ يعيد نفسه أحيانا رغم تغيير الظروف والشخوص. فالإحتلال الفارسي للعراق حاليا على سبيل المثال، ليس بظاهرة جديدة بل هو حلقة في سلسلة من الإحتلالات لها بداية وليس لها نهاية كما يبدو. فأطماع الملوك الفرس من كوتارتا حونتا وريمسين وكورش وكسرى وإسماعيل الصفوي وعباس الصفوي والشاه محمد رضا بهلوي والخميني والخامنئي ومن سيليهم لم تتغير رغم تغير الزمن والأنظمة السياسية. جميعهم لديهم نفس القواسم المشتركة. كراهية العرب، التوسع الإستعماري، النزعة الشوفينية، الغطرسة والتعنت، تمجيد الملوك المجوس، إستذكار الامبراطورية الفارسية القديمة ومحاولة تجديدها.
كتب المؤرخ علي ظريف الأعظمي كتابا بعنوان(تأريخ الدولة الفارسية في العراق) طبع عام 1927 في بغداد. إستعرض فيه المراحل التأريخية للإحتلال الفارسي للعراق. فمدة حكم الفرس للعراق منذ 7000 عام ولغاية الآن هي(1151) وهي موزعة كالتالي: الدولة الكيانية 207 عاما (538-331) ق م. الدولة البرتية وتعني خراسان حاليا(352)عاما للفترة(126-226) ق م. الدولة الساسانية( 411) عاما للفترة(226-637) م. الدولة البويهية (110) عاما للفترة(945-1055) م. الدولة الصفوية الاولى (33) عاما للفترة (1502-1535)م. الدولة الصفوية الثانية(17) عاما للفترة(1620-1638)م. الدولة الزندية في البصرة(3) أعوام للفترة(1768-1771). الدولة الصفوية الثالثة(10) أعوام للفترة(2003- 2013). ويلاحظ إن فترة احتلال الفرس للعراق منذ سبعة آلاف سنة ولحد الآن تمثل 1/6 تأريخ العراق، وهي فترة قياسية لم يخضع فيها شعب للإحتلال لمثل هذه الفترة الطويلة على يد نفس قوى الإحتلال.
أما مدة حكم الأتراك للعراق منذ 7000 عام تبلغ تقريبا( 456 ) وهي موزعة كالتالي. الدولة الجلائرية(91) عام للفترة(948-1032) أعوام. الدولة العثمانية الاولى(85) عاما للفترة(1535-1620) . الدولة العثمانية الثانية(280) عاما للفترة(1638-1917). كما حكم اليونانون العراق(205)عام موزعة بين إحتلال القائد الأسكندر المقدوني والسلوقيين. وحكم الكوشيون العراق(564) عاما. وبلغ حكم المغول والتتر والتركمان(224) عاما. بلد يمثل عامل جذب وإستقطاب لقوى الإحتلال الأجنبي بفعل موقعه الجغرافي الحيوي وكثرة خيراته، وسهولة شراء ذمم حكامه و إمكانية خداع شعبه.
لقد كانت اسوأ الإحتلالات للعراق بلا جدال هما الإحتلالين الفارسي والمغولي. فقد اعتمدوا سياسة المكائد والفتن وشراء الذمم ونقض العهود والفتك بمن والاهم ومن عارضهم على حد سواء. ولأخذ صورة مبسطة عن دخول الشاه عباس للعراق عام 1623 ونقارنها بالوضع الحالي. نلاحظ إنه بعد أن عجز الشاه عن دخول بغداد رغم حصارها الشديد من قبل قواته الغازية، ولم يتمكن منها إلا بعد أن حاك مكيدة خبيثة اشترى فيها ذمة(محمد)ابن والي بغداد حينها(بكر آغا) حيث تآمر مع الإبن العاق على أبيه، بعد أغرائه بأن يحل محل أباه وأن يفتح له خزائن الدنيا، وفعلا فتح له أبواب المدينة ليلا ومكنه من إحتلالها وقتل أبيه الوالي.
أول عمل قام به الشاه عباس الصفوي بعد نهب وتدمير المدن والقرى التي مر بها في طريقه لبغداد هو حلٌ دواوين الدولة وقتل كبار رجال الحكومة، وتصفية كبار العسكريين، ثم توجه لإغتيال رجال الدين السنة وخطباء الجوامع ثم هدم جوامع السنة وعاث فيها فسادا وخرابا. ويذكر الأعظمي بأنه قد" فتك بالسنة فتكا ذريعا" وإستولى على أموالهم كغنائم حرب، وارتكب جنوده السلب والتخريب واغتصاب النساء. ثم حج الى كربلاء والنجف وعمرهما، وقرب اليه علماء الشيعة وأغدق عليهم بسخاء، ثم قفل راجعا بعد أن ترك(5000) جندي لحماية الأضرحة والمراجع الدينية بإمرة القائد الفارسي(صفي قلي خان)، بعدها توجه الى رؤساء العشائر العربية لشراء ذممهم، بالترغيب تارة والترهيب تارة.
نفس الأعمال الهمجية تكررت مع الغزو الفارسي الجديد للعراق. تآمر ومكائد وفتن طائفية وقتل واغتيالات على الهوية المذهبية، ونهب واغتصاب واعتداء على اهل السنة وتدمير مساجدهم ومصادرة املاكهم وغنِم اموالهم. في الجانب المقابل أمن الشاه الصفوي حماية العتبات المقدسة بجنود فرس(حاليا الحرس الثوري وفيلق بدر يؤمنان الحماية للأضرحة والمراجع العليا). وعمر العتبات المقدسة ووزع المناصب العليا على الشيعة. وجعل المراجع الدينية هي صاحبة القرار الأول والأخير في شؤون الدين والدنيا.
بطبيعة الحال لم تكن بقية قوى الإحتلال غير الفارسي شفافة وبناءة أو رحيمة بالعراقيين. ليس في قاموس الإحتلال أي مفردة من مفردات القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية. لا يوجد إحتلال مضر وآخر مفيد، وإحتلال أخوي وإحتلال معادي. قواسمها المشتركة بلا إستثناء هي الشرور والفتن والقتل والنهب وشراء الذمم. الإحتلال سواء كان من قبل دولة متحضرة أو بربرية تكون نتائجه واحدة. وخير شاهد على ذلك تصرقات الجنود الأمريكان في العراق ومنها فضائح سجن أبو غريب. لم نرى حضارة امريكية بل همجية وبربرية تتبع شريعة الغاب.
لكن الإحتلال الفارسي منذ العهد الصفوي تميز عن غيره بميزة خاصة، وهي إنه لم يكن عادلا في ظلم جميع العراقيين كالبقية، بل إستهدف أهل السنة فقط. وهو نفس ما يجري حاليا في الدولة الصفوية الثالثة في العراق بعد عام 2003.
من البديهي والمنطقي إن تحمل الشعوب التي خضعت للإحتلال، الضغينة والحقد للقوى التي احتلتها، وتتناسب شدة الضغينة تناسبا طرديا مع طول فترة الإحتلال وقسوته. وهذه نتيجة طبيعية لتدمير كيانها السياسي والإقتصادي والاجتماعي والثقافي والفتك بشعوبها ونهب خيراتها. بل إنها تعتبر تأريخها خلال تلك المراحل الإستعمارية تأريخا حالك الظلمة. وهي لا تكتفِ بأن تصبٌ جام غضبها على الحكام الحاليين للدول التي إستعمرتها رغم انه لا علاقة لهم بسلفهم، بل تُحمل جريرة الظلم الذي وقع عليها لشعوب الدول الإستعمارية.
فالشعب اليوناني مثلا يكره تركيا التي استعمرته لعدة قرون. ورومانيا وبلغاريا وبولندا تكره الإتحاد السوفيتي السابق، والروس يكرهون الألمان، والألمان يكرهون فرنسا والنرويجيون يكرهون السويديين ويسخرون منهم هكذا. العرب من بين خلق الله فقط يوقرون من احتل بلادهم وخربها وجزأها ونهب خيراتها، يعظمون من شأنه تعظيما، ويلتزمون بطاعته حتى بعد نهاية الحقبة الإستعمارية، فيقيمون مع من استعمرهم أفضل العلاقات الدبلوماسية والتجارية والثقافية. أنظر للعلاقات العربية مع فرنسا وبريطانيا فهي خير شاهد على حديثنا.
تلك الحالة الفريدة يمكن وصفها بمصيبة العرب في نسيان تأريخهم الحديث وسبب مصائبهم وتخلفهم، لكن الكارثة الكبرى تكمن في العراق. فشيعة العراق يهيمون بحب الفرس رغم تأريخهم الأسود مع العراق بشكل عام منذ أول غزو وحتى الغزو الحالي! وهذه مفارقة تثير ألف علامة استفهام وألفي علامة تعجب. فالمراجع الشيعية معظمهم من الفرس، كإنما أهل البيت كانوا من الفرس وليس عرب أقحاح، أو كإنما يفتقر شيعة العراق الى مراجع دينية وطنية كفوءة، رغم ان جميع آيات الله العظمى والصغرى من الفرس لا يحفظون سورة واحدة من القرآن الكريم، ولا يستطيعون قراءة آية من الذكر الحكيم بلسان عربي فصيح. في حين يوجد العديد من المراجعية الشيعية العراقية، لكنهم غير محظوظين بكسب الشيعة لصفهم.
بل ان المراجع الفارسية أنفسهم وهم يعيشون مع شيعة العراق ويتسيدونهم كأنهم عبيد، ويستنزفون أموالهم ويعبثون بشرف نسائهم، فهم راضون عن مراجعهم كل الرضا، وهذه حالة تثير القرف. هذا السيستاني الذي يسمي نفسه المرجع الأعلى، هل أخرج يوما رأسه من كهفه وتحدث مع عوام الشيعة؟ هل التقى بخطبة اسبوعية او شهرية او سنوية او عقدية بشيعته؟ حتى بابا الفاتيكان يزور الدول ويلتقى بشعوبه ومريديه أو يطل عليهم كل يوم أحد من شرفة الفاتيكان. هل التقى السيستاني بوفد اعلامي عربي كان أو أجنبي؟ هل يتمكن من محاورة اي عالم سني مباشرة وعلى الهواء في أي برنامج ديني ؟ أتحداه أن يفعلها هو أو بقية المراجع الأجنبية، لأن ورقة التوت الأخيرة ستسقط عنهم وتفضحهم.
هل ردٌ السيستاني على دعاوي بريمر ورامسفيلد بشأن عمالته والرشاوي التي تلقاها منهم نظير خدمتهم؟ وهي فضائح تخزي إبن الشارع فكيف بمرجع ديني أعلى؟ وكيف فسر سكوته المريب عن إرجاع هيبته وكرامته المهدورة؟ هل خرج السيستاني للقاء الشيعة في مواسم عاشوراء كأبرز مناسبة للشيعة؟ وهل طبر مع المطبرين ولطم مع اللطامين وبكى مع البكائين؟ هل زار مرقد الأئمة منذ اكثر من عقدين وهم على قرب من سردابه؟
إذا كان آية الله لا يحفظ شيئا من كتاب الله ولا أحاديث رسول الله، ولا يتقن اللغة العربية، ولا يرغب بلقاء من يعيش على اموالهم وخيراتهم. ولا يزور ائمتهم، ولا يدافع عن شرفه وكرامته، ويزكي العملاء واللصوص والفاسدين، ويحمي من يعبث بشرف الزينبيات، ويكذب على الشعب(موقفه من الإتفاقية الأمنية الامريكية- العراقية، ووقوفه على مسافة واحدة من القوئم الإنتخابية وغيرها). فهل هذ صفات لزعامة دينية أم لزعامة عصابة إجرامية؟
من الطبيعي جدا أن تبادل الطرف الآخر مشاعر الحب والولاء والإحترام والود كردٌ طبيعي لمشاعره إتجاهك، أما يكون الطرف المقابل يحتقرك ويخدعك ويستغلك ويسرقك ويتلاعب كذبا بعواطفك ويسير بك إلى الهاوية، فهذ يعني إنك إداما مستغفل وجاهل، أو مخدوع ومبتز، وكلاهما لا يشرفان المرء. ويفترض أن لا يرتضيها بشر سوي لنفسه، لأن العيب يكمن فبه قبل أن يكون فيمن يستغله. إن تخدعني مرة فأنت مخادع، وأن تخدعي ثانية فأنك شاطر، وأن تخدعني ثالثة فأنت في قمة الذكاء وأنا في قاع الغباء.
التعاطف المذهبي المعتدل ليس به شائبة، فهو يعزز العلاقات الإجتماعية والثقافية، أي هو عامل جذب وجمع وتضامن، أما التعصب المذهبي فإنه عامل بغض وتنافر وتشتت. صحيح إن إيران دولة شيعية ولكن هذا ليس مبررا فاعلا لكي يتضامن الشيعة العرب معها حقا وباطلا. ان الموقف المعتدل للنظام الحاكم في إيران مع بقية الدول والشعوب بل مع مواطنيها أنفسهم هو العامل الأول لتقييم نظامها. كما إن من يُعيد صناعة الإسلام بطريقة مشوهة ويصدره كثورة إسلامية معلبة للدول الإسلامية التي هدته إلى لإسلام وأنقذته من نار المجوسية. هو فعل غير عقلاني، بل يدخل في خانة العداء للعرب، طالما إنه يقوم على صناعة الفوضى والفتن، ويتبنى صيغ التآمر على العرب والعروبة.
إيران ليست دولة تصلح كنموذج لحكم الشيعة، إنها دولة عنصرية طائفية، راعية للإرهاب تكرهها كل دول العالم وتتعامل معها بحذر شديد. دولة مشاكسة تثير الفتن الطائفية في معظم دول العالم، لها أطماع توسعية معلنة، تتدخل في الشؤون الداخلية لبقية الدول. تزرع الخلايا السرية في مكان، تسلح الحركات المتطرفة، تأوي الإرهابيين والمجرمين، تتعامل مع شعبها سيما العرب والأكراد والبلوش والفرس ممن يعارضون حكمها بعنف وقسوة وظلم. ترتقي اعلى درجات سلم الإعدام في العالم. وتتصف بخنق الحريات العامة وإنتهاكات حقوق الإنسان. تصرف المليارات على الصناعة النووية وشعبها يتضور جوعا. سياستها الخارجية فاشلة. وبإستثناء العراق وسوريا ولبنان فإن علاقاتها الدولية متأزمة مع جميع دول العالم. وهذه الدول العربية الثلاث تخضع خضوعا تاما لإرادة الولي الفقيه وتوجيهاته. وهذا ما عبر عنه قادتها بكل صلافة ومنهم قاسم سليماني.
لذا نجزم القول بإن إيران دولة فاشلة بكل المقاييس الوطنية والإقليمية والدولية، فاشلة مع شعبها ومع حيطها الجغرافي والعالمي. نعني بذلك نظام الحكم الفاسد الذي يختفي وراء قناع المذهب الإثنى العشري وهو أفشل من مثله وأبتعد عن قيمه وإصالته.
إن إنقياد الزعماء العراقيين الى ولاية الفقيه يمكن تفهمه وليس قبوله، فهم صنيعة ذلك النظام المستبد ومعظمهم يحملون جنسيته او من ذوي التبعية الايرانية. والنظام الإيراني هو الذي أسس لهم الميليشات ودربها وسلحها ومولها وما يزال ينفق عليها بسخاء لتعبث بأمن العراق وتنفذ أجندة ولاية الفقيه.
كما إن النظام الإيراني هو الذي سلمهم الحكم في العراق بتفاهم مسبق مع الشيطان الأكبر والكيان الصهيوني. وهذا ما عبر عنه (السير كيران برندرغلست) نائب كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة" لا أعرف فيما !ذا كان الإيرانيون يركعون فعلا لله، ولكن إن كانوا فعلا يؤدون ذلك! فيجب عليهم أن يركعوا يوميا للرئيس بوش، ويبتهلوا له بالشكر لشنٌ الحرب على العراق، فقد عزز مكانة وقوة إيران في منطقة الشرق الأوسط". وأشار الكاتب البريطاني(جون كامبفنر) بإن ايران " هي الفائز الوحيد من الحرب على العراق". لذا فإن حكام العراق حاليا هم إذرع الأخطبوط الفارسي في العراق، والمنفذون لأجندته. لذا لم نلاحظ زعيم أي حزب شيعي او نائب في البرلمان او وزير منذ الغزو ولحد الآن قد وجه مجرد نقدا للنظام الأيراني رغم جسامة وخطورة تدخلها في شأن العراق.
لكن لا مبرر مطلقا لإنصياع أكثرية شيعة العراق لإرادة الفرس السياسية والدينية، لا يحق لهم التضحية بالمواطنة في سبيل المذهب. إن المذهب الذي لا يعزز المواطنة والأخاء والتضامن بين كافة مكونات الشعب لا خير فيه ولا رجاء منه. إنه وباء مبيد وليس مذهب مفيد. و
ولا يجوز مطلقا أن ترفع صور الخميني والخامنئي في شوارع العراق لأنها تكريس للولاء للأجنبي وتشجيع دولة الفقيه على التمادي في اطماعها التوسعية وتدخلها في شؤون البلد بحجة نصرة المذهب. ولا يجوز رفع اعلام ايران وحزب الله في سماء العراق.إن فضاء العراق خاص بالعراقيين والسارية التي تحمل علما غير عراقي، وجب تحطميها على الرؤوس العفنة التي توالي من لا يواليها. العراق عراق الجميع بكل أديانه ومذاهبه وقومياته، ولا فضل لعراقي على آخر إلا بعمق مواطنته واخلاصه لشعبه. وهذا ما أفرزته تظاهرات الأنبار والموصل وديالى وصلاح الدين وبغداد وكركوك المجيدة. فالمجد كل المجد للوطنيين الأصلاء، والعار كل العار للعملاء.