الشريعة الإسلامية وفاسدي الطوية

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

لا شك أن الإسلام قدشمل أعراض الناس بأقوى حماية يمكن أن يختص بها حق من حقوق الإنسان، وتتمثل صور هذه العناية فى العقوبات القضائية الشديدة التى يوقعها على الجناة فى حالات القتل و الزنى وهتك العرض وغيرها من الجرائم التى تقوض دعائم المجتمع،كما تبدو أيضاً فى تحريمه الغيبة والنميمة والهمز واللمز والتنابز بالألقاب و كل ما يمس عرض الإنسان ويصيبه فى مقتل، وفى تحقيره لمقترفي هذه الآثام وتوعده اياهم بأشد العقاب، وأنكى العذاب، فى يوم﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾الحج:2.

نجد أن الشريعة الإسلامية لم تكتف بتقرير عقوبة الإعدام فى الزنا الذى يرتكبه شخص بالغ عاقل مختار سبق له الوطء فى نكاح صحيح، بل أوجبت أن تنفذ هذه العقوبة فى أعنف صورها وأشدها تعذيباً للجانى، وذلك بأن تنهال عليه الحجارة رجماً وضرباً حتى تفضى إلى موته وتغسله من درن الرذيلة، كما أن فى إقامة هذا الحد الذى يجب أن يطبق بكل بصرامة وحزم فائدة لمن شهده فهو يمنعه من ورود ذلك المورد الخطر ويكون وقعه شديداً على نفسه، وهذه العقوبة الموجعة من قِبْل الإسلام تجاه الزانى المحصن لم تأتى من فراغ، فالزانى المحصن قد ذاق عُسيلة النساء والإحصان فى الغالب يلهي ويصرف صاحب الطبع السليم، والفطرة السوية عن مغبة الفاحشة، فعدوله عنه إلى الزنا ينبئ بفساد طويته، وانحراف فطرته، وسعيه لإقتناص لذة محرمة طمعاً لما يصاحبها من نشوة عارمة، هذا الصنف من الناس وضعت له شريعتنا الغراء عقوبة مؤلمة مضنية تضاهى تلك النشوة التى حصدها من جراء فعله الشنيع، ولكن حد الزنا لا يوقع هكذا جزافاً على المحصن وغير المحصن، بل هناك الكثير من الشروط التى يجب توافرها، فلا يوقع حد الزنى إلا إذا ثبت الجرم بشهادة أربعة رجال عدول مجردين من الجرح يقروا بأنهم قد شاهدوا الجرم بأعينهم وتأكدوا من وقوعه على الوجه الذى لا يشكك فيه أحدهم أو يمارى، أو يثبت بإقرار الجانى نفسه، ولا يخفى أنه من النادر أن يقر زان بفعلته النكراء لأنه يدرك جلياً أن إقراره سوف يترتب عليه أن تمطر الحجارة رأسه وجسده، أو السياط ظهره وجسمه، كما أنه من الصعوبة بمكان أن يتمكن أربعة رجال عدول مجردين من الجرح من رؤية الجريمة لحظة اتيانها والتأكد من وقوعها على الوجه الأكمل، لأن هذه الجرائم ترتكب عادة فى الخفاء وفى جنح الليالى أو بعد أن يتحصن مقترفيها من عين الرقيب.

والشريعة الإسلامية "رغم تشددها فى الجرائم التى تتعلق بالأعراض إلا أنها تسقط تلك الحدود إذا أحاطت بها الشبهات عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم :" ادرءوا الحدود بالشبهات"، وإستناداً على هذا الحديث الشريف يجب ألا يقبل القاضى إعتراف المقر بفعلته ويبنى على ذلك حيثيات حكمه دون أن يراجعه، "بل لا يعتبر الإعتراف موجباً للحد إلا إذا تكرر أربع مرات فى أربعة مجالس، وكلما أقر  مرة رده القاضى، وزجره على إقراره، وأظهر كراهيته له، وأغراه بالرجوع عنه، وزين له ذلك، بل يلقنه الألفاظ والعبارات التى يرجع بها فى إقراره، فيقول له  مثلاً لعلك قبلت فقط أو لعلك لمست فقط، ويأمر بتنحيته عنه وطرده، ومن ذلك أيضاً أن الشريعة الإسلامية تقرر أنه اذا أصر المقر على إعترافه على الرغم من هذا كله، ولكنه حاول الفرار فى مبدأ توقيع الحد عليه أو فى اثنائه، فإن محاولته هذه تعتبر بمثابة رجوع عن إقراره فيرفع عنه الحد كما جاء فى مذهب الإمام أبوحنيفة"،

إنّ الحقيقة التي لا تسومها مبالغة، أو يشوبها افراط، أن الشريعة الإسلامية تسعى دائماً لإلتماس المخارج لمن اقترف ذنباً وأقرّ به، ونحن إذا نظرنا فى عجلة إلي السنة النبوية المطهرة لوجدنا الكثير من الآثار والروايات التى تؤكد صحة هذا القول، فالنبي عليه الصلاة والسلام الذى كان حريصاً على إنتشال أمته من موارد الهلكة والخسار، وانقاذها من مهاوى العطب والدمار، قد دعا لدفع الحدود ما وجدنا لها مدفعاً وأنه عليه عاطر الثناء، وأذكى التحايا، قد طبق هذا التوجيه بقوله لماعز كما ورد فى صحيح البخارى:" لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت".  وللغامدية نحو ذلك، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم من وراء ذلك كله هو درء الحد "فلو لم يسقط به الحد لما كان له معنى، ولأن صحابته الأماجد رضوان الله عليهم لما رجموا ماعز ووجد مسّ الحجارة قال:ردوني إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا، وذكروا ذلك للنبى عليه الصلاة والسلام  فقال:"هلاّ تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه"، فالنبي الخاتم كان يحرص على دفع المقر عن إقراره حرص العابد المتحنث على صلواته، واخلاء ساحته، إذا لم يتمسك بإقراره، وهذا ما سار عليه صحابته رضوان الله عليهم من بعده فسيدنا عليّ كرّم الله وجهه قال لشراحة "لعله وقع عليك وأنت نائمة، لعله استكرهك، لعل مولاك زوجّك منه وأنت تكتمينه"، تلك هى السنة الشريفة التى لزم غرسها الصحابة رضوان الله عليهم وعضوا عليها بالنواجز وينبغى للقضاة فى عصرنا هذا أن ينتهجوا نهج البهاليل السادة والكرام القادة فإذا أقرّ عندهم أحد بشئ يوجب الضرب والعقاب أن يعرضوا له بالرجوع ويثنوه عن إقرارة.