أن يتكامل العمل لا أن يفترق

أن يتكامل العمل لا أن يفترق

د. سماح هدايا

 أسئلة كثيرة وسط المعارك والثورات لا مفر منها. ويبقى السؤال يتيما بلا جواب عندما نجيب عنه فرادى أو جماعات مشتتة، من دون أن يتبلور مجتمعيّا وفكريّاً وسياسياً وواقعيا. وإجابة الأسئلة تأتي مؤجّلة حتما، إلى أن تنضج الظروف والرؤى. وفي هذا المجال ما يثار من أسئلة، وحالات جدل بين ناشطين من داخل سوريا وخارجها حول العسكرة والسلمية والمدنية والعملية السياسية. ويتسع حراك المتناقضات ويزداد بين صفوف المنخرطين في الثورة، خصوصا بعد حالات الاختراق والاتجار بالثورة ومطالبها سياسيا وعسكريا وإغاثيا، ليطال شرعية القتال. ومن اللافت أن تعود هذه الأسئلة للظهور بشكل واضح في ظل تقدم الثورة العسكرية على الأرض وإنجاز البطولات، بالتوازي مع التضحيات الكبيرة والخسائر الكثيرة. ولعله يشير إلى اشتداد الأزمة مع اقتراب الحسم العسكري، واحتدام التوتر لدى الجميع من المنخرط في الثورة، أو الخائف من انحرافها، إلى الصامت فيها، حتى المعادي لها.

من الواقعي أن تثير طبيعة بعض العسكرة جدلا وخصومة؛ خصوصا في ضوء تفشي السلاح الذي يفسح في الطريق واسعا أمام الاختراق...لكنْ، في مقدمة الاختراق أيضا كثير العمل المدني وكثير العمل السياسي. وكثير التهافت على الحصص والمكاسب... وهو ما يجعل المساءلة والنقد يطالان الجميع وليس فقط العسكرة. لكن بالمقابل يوجد سوريون يستشهدون كل يوم لأجل الحلم..

يوجد سوريون يعملون بدأب لتحقيق النصر..

يوجد سوريون لن يقبلوا أن يكونوا رافعة لأحد، أو منفذين لرغبات الآخرين..

يوجد سوريون قاموا بالثورة واستمروا بها، ومازالوا يدافعون عنها ويصونون ما قامت لأجله...

معركة طويلة، قاسية، يعرف هؤلاء السوريون أنها لن تنتهي لا اليوم ولا غداً...

كل الأسباب التي يقال أنها مبرر لعدم الوقوف مع الثورة، أو التوقف عن دعمها، هي نفسها ما يجب ان تكون مبرراً للاستمرار بها....

مازالت ثورتي..... وإنّ الاصرار على استمرار الثورة ونجاحها يجعل من الضروري الوقوف جميعا أمام هدف واحد هو إسقاط النظام، ودعم العمل العسكري الوطني الذي لم يكن خيارا شعبيا طوعيا. بل ضرورة فرضها العنف والإرهاب اللذان استخدمهما النظام بوحشية.

 المنطق العسكري هو الفاعل على الساحة للضرورة الواجبة، وهو القائم بمهمة قنال النظام الإرهابي.. وهناك من ندر نفسه للقتال حتى إسقاط النظام أو طلب الشهادة... وبالتالي؛ فأقلّه احترام المقاتلين؛ لأنهم يخوضون المعركة بشجاعة وبسالة وعقيدة. وأما منطق العمل المدني فهو شديد الأهميّة، لكن طبيعته مرتبطة بالواقع الذي تفرضه معطيات الأرض العسكرية بحيث يتماشى مع الظروف الطارئة. فالوضع في سوريا حالة طوارىء كارثية. والتعاطي خارج هذا المفهوم يكون جانبيا وهامشيا، وهدرا للوقت؛ فتصوّر الغد وفق الحاضر غير صحيح. الصورة الآن، ترسمها الظروف الكارثية والحربية الدائرة. وهي غير صورة الغد.

 الأماكن المحررة الآن عير صالحة لأن تقوم فيها دولة؛ فمازال طيران النظام الإرهابي وقواته يقومان بالتدمير والقتل. ومن أول شروط بناء الدولة حالة الأمان والاستقرار وهي غير حاضرة في أي مكان من سوريا. ومن غير الواقعي، الآن، نقد النضال المسلح، وتضحيم دور الحسم المدني والسلمي، فكيف يتحقق العمل المدني السلمي بكل متطلباته ومطالبه في ظل تحديات البقاء والوجود حتى في شروطها الدنيا؟ نعم نحتاج جدا لتأسيس مجتمع مدني، ودولة لها مؤسسات مدنية وحراك سلمي لتحقيق التعايش والتصالح وعدالة الانتقال إلمرحليّة؛ لكنْ، من دون القفز على أولويات البقاء والعيش والوجود. وكل هذا الصراع يجب ضبطه حتى لايتحول العمل الثوري إلى كيانات متناحرة بين الحركة العسكرية والحراك المدني والتحرك السياسي؛ فتواجه بعضها بدل أن تشكل جبهة واحدة للمواجهة النظام.

 المدنية والحراك السلمي يهتمان بالادارة المدنيه وبالمؤسسات والاحزاب؛ فهل المدنيون قادرون على فعل هذا بمعزل عن الحماية العسكرية؟ والشعب السوري لم يكن لديه دولة مؤسسات مجتمع مدني بمعنى الكلمة حتى يعتمد على مكوناتها وإرثها؛ فلم يحظ العمل المدني بإمكانية التطوّرفي ظل نظام الاستبداد ومنظومته. ومع ذلك؛ فما زال الحراك السلمي والمدني يعملان على الرغم من كل الظروف الصعبة، وقد يتفقان مع العسكرة أو يختلفان، لكنّ قوة الأرض للعسكرة التي فرضتها ومازالت تفرضها الظروف.

 الحراك المدني مهم جدا وخصوصا في عملية البناء وفي تغطية الأوضاع الكارثية، لكنه وحده لا يكفي. ماذا سيقدم، وهو أعزل، للذين يقصفهم النظام؟ وماذا سيفعل لكل المهددين بالقتل وتدمير البيوت والاعتقال والتعذيب؟. لابد من قوة عسكريّة. وأين الحراك المدني من قصف مخبز؟ و هل يستطيع أحد أن يقف في ساحة العباسيين أن يقول نريد إسقاط النظام من دون أن يتلقى القتل أو الاعتقال والتعذيب؟ هل يستطيع أحد أن يطالب بانتخابات مبكرة؟. وحتما لا تعني اللقمة والمدرسة شيئا في ظل غياب الأمن الأمان..ولا تعني الحياة في الأصل شيئا في حال غياب الحرية. العمل المدني ليس مصطلحا إنشائيا نرميه في الهواء. هو حراك له مكونات ومعطيات وشروط وحاضنة أمان؛ لكي يكون فاعلا وناجحا. وهو أيضا مثل العسكرة والسياسة يخضع للتمويل وجدول أعمال الممولين وأهدافهم الخاصة. ومثله مثل العسكرة فيه الوطني الشريف وفيه المخترق.

 إنّه من المفهوم في كثير ممن يرفضون العسكرة تخوف الأقليات من تزايد الحراك الإسلامي؛ فهي تهديد لمصالحها ، وهم يشعرون أنهم متهمون مهما كا نوا أبرياء وثوريين، ويخشون من الإقصاء كرد فعل على ماكان من استحواذ وهيمنة بطابعهما الجهوي الطائفي؛ فيلجأون وغيرهم من الناشطين الشباب للعمل المدني والإغاثي، وهذا أمر ذكي وناضج ووطني. لكنْ، في المقابل، استمرار الحديث عن الإسلاميين وعن العسكرة الإسلامية للثورة غير مجد؛ فهل هناك من معادلة أخرى لإسقاط النظام؟ وهل هناك حلول واقعية غير العسكرة لإسقاط النظام؟ قد يكون الجهاديون جزءاً من المشكلة الآن؛ لكنهم أيضا جزء من الحل الآن؛ فلنعمل مرحليا، ولنؤجل الغد لمستجداته. المقاتلون في الجيش الحر وفي كتائب كثيرة غيره لديها قضية هي إسقاط النظام فليكن التعامل معهم مدنيا ضمن هذا الأمر وفي ظله، وبالتسيق داخل الأهداف ذاتها. أما المارقون والمخترفون وعصابات النهب والسلب والتخويف؛ فهم جزء من الأعداء وليسوا جزءا من مقاتلي الثورة. والبندقية الوطنية ضدهم وليست معهم ولهم. وما يبدو على الأرض من عسكرة دينية، ليس أبديا، الأرض تتقلب عليها المواقع، وهي تقلب المواقع. إن الصور اليوم غير الغد وغير الأمس. وفي المحصلة هدف الثورة في العدالة الوطنية والحرية واضح. وعلى المجتمع ان يقبل بنسيجه العام. وعلى النسيج العام أن يقبل بمكوناته. وهكذا ينتهي أصل المشكلة.

الفوضى الكبيرة في المناطق المحررة ومناطق المعارك أمر طبيعي. ولابد من النقد البناء والواقعي؛ لكن هناك معركة حقيقية يخوضها المقاومون على مصيرهم ومصير سورية. وهنا الأجدى أن يتكامل العمل لا أن يفترق. فالشعب يخوض مع نظام الإرهاب حرب عصابات وحرب مقاومة . والمعارضة المسلحة تقود معركة ضحمة لترهق النظام تمهيدا لعملية الإسقاط؛ وهي مضطرة أن تمسك بزمام الواقع وأن تهمش دور العمل المدني، مع أنها تقوم ببعضه للإغاثة. والمشكلة تعود في جذرها إلى افتقار الأرض إلى صانع سياسي. وإلى فتقارها إلى تجذر مدني وطني متكامل، يمكن الاعتماد عليه. فمن يقرر الآن هو من يقاتل في الميدان...

 لابد من خلق ثقة بين مايدور على الأرض عسكريا وبين العمل السياسي. والعمل المدني ومد الجسور. الهروب من دعم الناس عسكريا هو عملية خاطئة, لأنك تترك الشعب ووحيدا أمام القتل الوحشي . ولا تملك الثورة رفاهية السلم والعودة إلى الوراء. المعركة، ليست فقط عسكرية. لها امتدادات سياسية داخلية وخارجية. الفراغ في السلطة المدنية خطير. وأيديولوجيات القاعدة خطيرة. والعقل العسكري له سلبياته؛ لكن لا يقل عن ذلك خطورة موقف المشككين عميقا بالثورة والمطالبين بإسقاط البندقية.