الحضارة
1
مُصطلحُ الحضارةِ مصطلحٌ موسوعيٌّ..فلسفيِّاً وثقافيِّاً وماديِّاً وعلميِّاً وعمليِّاً..مِمَّا ولَّدَ صِيغًاً كثيرةً لِمعنى الحضارةِ..كما جاء على لسان ابن خلدون،وآرنولد توينبي،وأوزولد شبنقلر..والغرب يتحدث عن الحضارة بعبارتين الأولى"Civilization"وترجمت للعربيةِ"حضارة أو مدنية" والثانية"Culture"أي" ثقافة" فهناك مدرستان لمفهوم الحضارة عند الغربيين..مدرسة: (Civilization) مدنية..ومدرسة:(Culture) ثقافة..وما بين المدرستين حوار وجدل مستمر..وبتأمُلِ مُصطلحِنَا العربيِّ"حَضَارَةٌ"الذي جاء من الحضور والتحضر والبناء والاستقرار..أحسست أنَّه المصطلحُ الأنسبُ للتعبيرِ عنْ حالةِ تفاعُلِ وتَعامُلِ الإنسانِ معَ الكون والحياة..فعبارةُ (حضارة) بالعربيِّة تعبرُ عنْ حالةِ بناءٍ مركبٍ..بناء ثقافي..وبناء مادي..أو بناء الإنسان والمكان..أي عن حالة تكامل بين البناء الأخلاقي والبناء المادي لمسيرة الحياة..والحضارة بشكل عام تعبر عن حالة تكامل بين الثقافي والعمراني..وبذلك يكون المصطلح العربي قد عبر عن مقاصد المدرستين الغربيتين(الثقافة والعمران) وتأسيساً على هذا الفهم اجتهدت فعرفت الحضارةِ فقلت:(هي ثمرةُ كُلِّ جَهدٍ بشريٍّ إيجابيٍّ يُبذلُ لعمارةِ الأرضِ وفقَ ثقافةٍ مَا) فبمِثلِ هَذا الجَهدِ في الاستجابةِ للتحديات والتصميمِ علَى التعامُلِ معَ المُستجداتِ..تكونُ الحضارةُ وتستمرُ..حتى إذا ضَعُفت الاستجابةُ للتحدياتِ..وقفَ الإبداعُ البشريُّ..تعثّرَ سيرُ الحضارةِ..وتحوّلت النُخبُ المبدعةُ إلى نخبٍ مسيطرةٍ ومستهلكةٍ..فتعجزَ عن الاستمرارِ في ميادينِ الإبداعِ الحضاريِّ..ومع هذه الحالة تبدأ محنةُ السقوطِ الحضاريِّ..وهذا يعني بوضوح أنَّ افتتانَ المُبدعِ بثمرةِ إبداعهِ..ثم انحباسَه في أبهة أوجِ إنتاجهِ الحضاريِّ..هي بكُلِّ تأكيدٍ بدايةُ سقوطِه وانحداره الحضاريِّ..إنَّ هذه الرؤيةُ لها مؤيداتُها الواقعيةِ عبرَ التاريخِ البشريِّ..فالتاريخ يحدث عن حضارات أقوام سادوا وعمرّواالأرض ثم اندثرت حضاراتهم..مثل قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم..والقرآن الكريم يوثق ذلك بشكل عام بقوله تعالى:"أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"وها نحنُ نعايشُ ما يؤكدُ هذه الحقيقة ويصدقهُا في تَاريخِنا المُعاصرِ.
2
مرتكزاتُ الحضارةِ
الحضارةُ بِفَهمي تقومُ علَى مُرتَكزين..مُرتكزٌ ثقافيٌّ ومُرتَكزٌ ماديٌّ..وحيثُ أنَّ لكُلِّ أمةٍ إبداعاتُها الثقافيِّةِ والماديِّةِ..فَنحنُ أمامَ وحداتٍ حضاريِّةٍ متنوعةٍ..وهُنَا أسألُ:هلْ هي وحداتٌ متكاملةٌ أم متضادةٌ ..؟ الحضارةُ منْ حيثُ شقُها الماديِّ نتاجٌ بشريٌّ تراكُميٌّ..تَكتنفُه وحداتٌ إبداعيِّةٌ ماديِّةٌ..مثلَما تكتنفُه وحداتُ أداءٍ قيميٍّ..وباختصارٍ نحنُ في النِهايةِ أمامَ تَكامُلٍ و تمايٌزٍ حضاريٍّ:تكاملٌ في البناءِ الماديِّ..وتمايزٌ في الأداءِ الأخلاقيِّ..عرفَت المسيرةُ البشريِّةُ حضارةَ العصرِ الحجريِّ..وحضارةَ الفحمِ الحجريِّ..ثُمَ حضارةَ البترولِ..ودخلَت الحضارةَ الذريِّة..وهَا نحنُ نلجُ الحضارةَ الجينيِّة وحضارةَ النَّاُنو..والبابُ سيبقى مفتوحاً حتى تَستكّملَ الأرضُ زينتَها وزخرفَها..ويَأتي أمرُ اللهِ وتُختتمُ رحلةُ الحياةِ الدُنيَا..وسيبقى لكُلِّ أمةٍ بصماتُها الإيجابيِّةِ أو السلبيِّةِ في البناءِ الحضاريِّ البشريِّ..فَالأمَمُ تتكامَلُ في المُنتجِ الحضاريِّ العُمرانيِّ..وتتمايَزُ في الأداءِ الثقافيِّ والأخلاقيِّ..وذات مرةٍ قُلتُ وأنَا أخاطِبُ مؤتمرًا دوليًا حولَ حوارِ الحضاراتِ:أيُها السادة لكونِنَا نتحدثُ عنْ حوارِ الحضاراتِ..فنحنُ بداهةً نؤمنُ بالتعدديِّةِ الثقافيِّةِ..وهَذا يُؤكدُ أنَّنا نُؤمنُ بالخصوصياتِ الثقافيِّةِ..ولكنْ أيَكفي هَذا القْدرِ منْ الفَهمِ والاتفاقِ ..؟ أمْ أنَّنَا بحاجةٍ إلى نَقلةٍ أُخرى ..؟ نَحنُ بكُلِّ تأكيدٍ بحاجةٍ للتحولِ بالخطابِ الثقافيِّ الإنسانيِّ..منْ الخُصوصيِّةِ إلى المُشتركِ..ومِنَ الإقليميِّ والقوميِّ إلى العالميِّ والإنسانيِّ..وهَذا لنْ يَكُون إلا ببلورةِ منطلقاتٍ ثقافيِّةٍ إنسانيِّةٍ مُشتركَةٍ.
3
تَنافسُ الحضاراتِ
المتأملُ في الحالةِ العالميِّةِ الراهنةِ إقليمياً ودولياً..يجدُ أنَّ المسيرةَ البشريّةَ في خطرٍ..وأنَّ منْ أبرزِ سماتِ هَذا الخطرِ:طغيانُ ثقافةِ عسكرةِ العلاقةِ الدوليِّةِ..مِمَّا يُنمّى منهجية التصادم بين الثقافات والحضارات..ويبددُ حُلمَ القريِّةِ الدوليِّةِ..الذي طَالما تَحدثنَا عنَها رَمزاً للتعارُفِ والتقارُبِ والتعايُشِ البشريِّ..ومِمَّا يجعلُ العنفِ والإرهابِ والغلوِ والتطرفِ..ثقافةً مهيمنةً علَى سلوكياتِ غالبِ الأفرادِ والمجتمعاتِ..بلْ وعلَى كثيرٍ منَ السياساتِ الإقليميِّةِ والدوليِّةِ..الأمرُ الذي يُولدُ الرعبَ والقلقَ في نفوسِ الأجيَّالِ..ويُفسدُ البيئةِ ويعطلُ أسبابَ التنميِّةِ..ومِمَّا يُؤسفُ لهُ أنَّ مراكزَ علميِّةِ في العالمِ اليومَ تُنظِّرُ لثقافةِ الصراعِ بينَ الحضاراتِ..وآخرون يُنظِّرون لنهايةِ مَسيرةِ الإبداعِ البشريِّ..زعماً مِنْهم أنَّ ثقافةً ما قد بَلَغت قِمةَ الإبداعِ الحضاريِّ..مِمَّا لا يدعُ حاجةً لمزيدٍ منَ إبداعٍ أو ارتقاءٍ..ففاجؤا البشريَّةَ بمقولةِ نهايةِ التاريخِ ؟؟!!!مِمَّا يُعطلُ حوافزَ السيرِ الحضاريِّ ويئدُ حركةَ الإبداعِ والتنميةِ..ومِمَّا يتعارضُ معَ رسالةِ الإسلامِ العظيمةِ..التي هَتفت بالنَّاسِ منْ وراءِ أربعةَ عشرَ قرناً "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"تَدعُوهم لِتَحمُّلِ مسؤولياتِ أمانةِ الاستخلافِ في الأرضِ..وتؤكد أنَّ هَذه المسؤوليات ملازمة للنَّاسِ على مدى الحياة إبداعاً وارتقاءً لقوله صلى الله عليه وسلم"إنْ قَامت الساعةُ وبيدِ أحدِكم فَسيلةٌ فَاستطاعَ ألا تَقُومَ حَتى يَغرسهَا فَليَغرسهَا فَلهُ بِذلكَ أجرٌ"وبِهَذا تَتَألَقُ رسالةُ الإسلامِ في دَعوةِ النَّاسَ إلى التعاونِ والتنافسِ في حركةِ البناءِ الحضاريَّ.