من عباب الذاكرة: عندما احترق راشد حسين..!
من عباب الذاكرة:
عندما احترق راشد حسين..!
شاكر فريد حسن
كان ذلك في شباط العام 1977 عندما ارتقى الشاعر الفلسطيني الكبير راشد حسين ، ابن قرية "مصمص" ، الى فضاءات غير فضاءاتنا، ومضى جسداً في عمق الثرى الفلسطيني، فنعاه الناعي، وتناقلت وسائل الاعلام المحلية والفلسطينية والعربية والعالمية نبأ وفاته، اثر حريق شب في منزله الكائن في الشارع السادس والاربعين من شرقي جزيرة مانهاتن بنيويورك، مساء يوم الثلاثاء في الفاتح من شهر شباط. وما ان انتشر الخبر حتى بدأت الجماهير الغفيرة والحشود الكبيرة من اصدقاء ومعارف ورفاق درب راشد ومحبيه بالتقاطر الى "مصمص" ، التي قال عنها الشاعر والمناضل الراحل توفيق زياد :" منذ ان انتقل الفلاح الاول من ام الفحم ليبني بيته الاول دخلت قرية مصمص خارطة الوطن . ومنذ الثامن من شباط عندما سارت الالوف من الارض المحتلة والجليل والمثلث وكل مكان لتشيع راشد الى مثواه الاخير اصبحت مصمص نجماً هادياً على خارطة بلادنا وقضيتنا السياسية ".
واصطفت الطوابير من اهالي مصمص لاستقبال الوفود الآتية من كل حدب وصوب لتعزي وتواسي بوفاة "راشد" البلبل الغريد في سماء الوطن ، وكان في استقبالهم الوالد الثاكل المرحوم حسين الحاج محمود ، والعم المرحوم معتمد القرية خالد الحاج محمود ، والعم المرحوم توفيق الحاج محمود ، واخوة راشد : احمد ورياض وكمال وفتحي ،والفتى الصغير في حينه جمال ، وغيرهم الكثير الكثير من الاقارب والاهالي .
وفي اليوم التالي تصدر هذا النبأ العناوين الرئيسية والمركزية في الصحف العربية والفلسطينية ، التي كانت تصدر في تلك الفترة، وبدأت الاتصالات الحثيثة مع الجهات المختصة والمؤسسات الحكومية بهدف نقل جثمان راشد لدفنه في مسقط رأسه . وفي البداية رفضت المؤسسة الطلب ، لكنها خضعت في نهاية الامر، ونتيجة الضغوط المحلية والعالمية وافقت على اعادته الى الوطن ودفنه في مسقط رأسه. وتشكلت لجنة لاحياء تراث راشد حسين من الشخصيات السياسية والاجتماعية والادبية والفكرية ، نذكر منها على سبيل المثال المحامي علي رافع وطيب الذكر المناضل منصور كردوش والمرحوم الشاعر طه محمد علي والمرحوم الشاعر عمر حموده الزعبي والشاعر المرحوم شكيب جهشان والمرحوم الشاعر نواف عبد حسن والشاعر سميح القاسم ، امد اللـه في عمره، والشاعر جمال قعوار وشقيق المرحوم الشاعر والقاص والمفكر احمد حسين، والكثير الكثير من الاسماء والاعلام الوطنية .
وفي الثامن من شباط كانت "مصمص" على موعد وجاهزة لاستقبال ابنها العائد ، الذي طالما غنى وانشد لها اجمل وارق الأشعار ، فازدانت بصور راشد، وبسعف النخيل واكاليل الورد والرايات السوداء والشعارات الوطنية ، واصطفت آلاف الجماهير من المنطقة وقرى المثلث والجليل والنقب وهضبة الجولان والضفة الغربية وغزة هاشم ومن القوى والاوساط الديمقراطية اليهودية ، التي ضاقت بها الشوارع والساحات بسبب اعدادها الكبيرة،منتظرة وصول الجثمان من مطار اللد ، وما ان وصلت القافلة التي ترافق الجثمان حتى هبت الجماهير المحتشدة لتتلقفه بالهتافات الوطنية والثورية وصرخات الغضب، واستقباله كالابطال ، استقبالاً يليق به . وسجي الجثمان في باحة المسجد القديم لتوديعه والقاء النظرة الاخيرة عليه . وحين ازف موعد الجنازة حمل نعش راشد على الاكتاف وسط موكب جنائزي مهيب ، لم تشهد فلسطين يوماً وطنياً وجنائزياً كما شهدته هذه القرية في ذلك اليوم.
وبجانب الضريح وقف العم الكهل، والد راشد، المرحوم حسين الحاج محمود اغبارية ، ليلقي كلمة شكر خاطب فيها ولده قائلاً :" يا ولدي راشد... اليوم ... وقد جاء اخوانك ليستقبلوك. اذكريوم ودعتك في المطار قبل اكثر من عشر سنوات .
يومها قلت لي :"يا والدي ... اني مسافر وان شاء اللـه سأعود وستكونون في استقبالي بعد ان اكون قد وصلت الى هدفي".
لقد سافرت يا ولدي من اجل هذا الشعب .
وها هو ذا الشعب يستقبلك يما يليق بالابطال ان يلقوا من الحفاوة والتكريم.
وها هم اخواتك واخوانك جاؤوا ليحتفلوا بعرسك ولن اقول انك ابني انا وحدي بعد اليوم ، فقد كنت ابنا واخا لهذا الشعب وقد تبناك هذا الشعب الاصيل ، ولن يتخلى عن المسيرة .
يا راشد... لقد عشت ابيا كريما، واستشهدت حراً عظيما، ولن ابكيك لان الشهداء الابطال لا يبكون . واقول" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللـه امواتا، بل احياء عند ربهم يرزقون".
اما شقيق راشد المبدع احمد حسين فوقف هاتفاً بصوت غاضب واثق يرثي شقيقه بقصيدة عصماء مؤثرة قائلاً :
جددت عهدك والعهود وفاء انا على درب الكفاح سواء
نم في ثراك فلست اول عاشق قتلته اعين ارضه النجلاء
ماذا يرد عليهم ان يختفي رجل وملء الساحة الابناء
ميلاد موتك موعد لم تخطه من قبلك الاحرار والشرفاء
وصباح نعيك صيحة لن تنتهي ما دام يسقط حولك الشهداء
الحب تعرفه وكنت نبيه والساح صمت والقلوب خواء
الحب تعرفه اما حدثتنا اغلى اماني العاشقين عطاء
وتوالت بعد ذلك كلمات الرثاء والتأبين التي القاها عدد من اصدقاء راشد ، الذين جمعتهم به وشائج الود والصداقة . وفي ختام هذا اليوم الفلسطيني المشهود ، الذي تلاحمت فيه كل فصائل وقوى شعبنا من جميع المواقع والاماكن الفلسطينية ، عاد كل واحد منا الى بيته وبلده . وكم كان الشيخ المرحوم ابراهيم محمود (ابو شوقي) صادقاً عندما قال يومئذ :" ايه يا راشد ! انك عريس هذه القرية الصغيرة بحجمها وعدد سكانها، ولكنها اصبحت بك كبيرة كبر نفسك وعظمها. انك عريس فذ انطلق ركب زفافك من اضخم مدينة في العالم ،نيويورك، الى اصغر قرية في الشرق الوسط .. الشرق العربي، هي قرية "مصمص" فما اروع هذا الزفاف الذي اشتركت فيه الارض والسماء".
وظلت وفود العزاء تتوافد الى القرية لاسابيع حتى جاء يوم اربعين راشد ، حيث اقيم له احتفال تأبيني وتكريمي ضخم يليق بمكانته ودوره واهميته في حياتنا الادبية والثقافية والسياسية والنضالية ،لا يقل من حيث المشاركة عن يوم التشييع، تحدث فيه عدد كبير من الشعراء واهل القلم ورفاق الدرب والنضال، اذكر منهم : المناضل بسام الشكعة والمناضل المرحوم توفيق زياد والمناضل المرحوم فهد القواسمي والمرحوم حنا مويس وذياب لطف عبد المجيد والشاعر حنا ابو حنا والشاعر سميح القاسم والشاعر جمال قعوار والشاعر المرحوم شكيب جهشان والشاعر المرحوم طه محمد علي والشاعرعمر حموده الزعبي والشاعر المرحوم رياض طاميش والشاعر محمود الدسوقي والاستاذ طلعت صالح محاجنه وعلي الطزيز والشيخ المرحوم ابراهيم محمود شرقاوي وريموندا الطويل وسميرة الخطيب وسواهم الكثير.
ولم تتوقف الصحف والمجلات الفلسطينية عن نشر كلمات الرثاء والتأبين لراشد حسين ، تقديراً له انسانا وشاعراً ومناضلاً ، اضافة للمقالات والدراسات عن حياته وشعره وسيرة حياته . كذلك تواصلت برقيات التعزية التي انهالت على عائلة الفقيد في ذلك الوقت ، الذي لم يعرف شبكات التواصل الاجتماعي ولا الفيسبوك ولا البريد الالكتروني ولا اللايكيم . ومن هذه البرقيات برقية مرسلة من نازحي مخيم جنين، جاء فيها:"من جبال وسهول مخيم جنين جئنا ونحن نحمل بايدينا حفنة تراب جبلناها بعزيمتنا لنخلطها بتراب ام الفحم ومصمص فوق تراب شهيدنا راشد، معبرين عن تضامننا وتعاوننا مع كل يد ارتفعت لتحمي غصن ويتون، ولتحمي مجد شعب احب ترابه فأحبه، ولتعلم يا رفيقنا راشد بانك وان ابتعدت عنا فلا زلت في قلوبنا وعلى السنتنا ،رمزاً للشهادة والوفاء، ولنسير على دربك ،معبرين عن حبنا لك وللتراب الذي احببته فأحبك.
ومن صميم ترابنا ومن ظلال زيتوننا خرج راشد يحمل قصيدته ، التي علمتنا كيف نحافظ على التراب الذي غذى به زيتوننا ، التراب الذي احب الزيتونة التي ظللته ... فعاش من اجلها راشد".
وبعد ، ها هي السنين تمضي وتمر كلمح البصر ، وراشد حسين الراقد في قبره السرمدي لا يزال في الذاكرة الفلسطينية ولن يموت . وخير ما انهي به ما قاله شاعرنا الفلسطيني سميح القاسم : "راشد حسين هو المناضل الشهيد والشاعر الفقيد ، لكنه عوض ذلك الأخ والصديق الذي لن يكتب شعراً بعد الآن ... الكأس التي تجرعها كانت كأس دمه ، والقصيدة الأخيرة التي كتبها كانت قصيدة موته ".