الدولة المدنية الديمقراطية

عقاب يحيى

تمهيد :

يعتبر نشوء الدولة المدينة حديث عهد في مسار التطور البشري، يعود إلى القرن السادس عشر، بعد نهاية الإمبراطوريات التي سادت في أوربا، المتصفة بالحكم المطلق. ويمكن القول أن أفكار عصر الأنوار الفرنسي، فالثورة الفرنسية.. هي التي أرست، وجسّدت حقيقة وجود دولة مختلفة التكوين عن سابقاتها، تُدخل، للمرة الأولى مفهوم الشعب إلى ميدان المشاركة، ويصبح لكلمة مواطن مداليلها الدستورية والحقوقية، وصولاً إلى الانتخابات متعددة الأشكال، فالانتخابات النيابية حين يشارك الشعب باختيار ممثليه إلى مجلس للنواب، سيّد، يتولى السلطة التشريعية، ويستقل تماماً عن السلطة التنفيذية، ويكون الدستور هو حجر الأساس، والقوانين المقرة عماده .

ـ ولئن تُجمع التعاريف على مقومات الدولة بأنها : الشعب والسلطة والأرض، فإن مفهوم السلطة هنا يختلف عن الدولة، فالسلطة متغيرة بتغير الحكام، والدولة ثابت يخصّ كيان الأمة لشعب من الشعوب .

ـ يختلف مفهوم الدولة حسب مضمونها الإديولوجي، فهناك الدولة الدينية، والدولة القومية، وهناك الدولة المدنية الديمقراطية التي يحلو للبعض تسميتها بالعلمانية، على غرار الشائع في الدول الغربية . والعلمانية هنا ليست بالضرورة، والحتم فصل الدين عن الدولة، وإنما يمكن أن تكون عملياً بفصل تسييس الدين عن الممارسة السياسية، وبالتالي رفض قيام الأحزاب على أساس ديني أو عرقي، أو عنصري، بينما توفر الدولة لجميع الأديان، والأفكار حرية التنافس، والعمل، والانتشار كجزء صميمي من حرية الرأي، والعقيدة، وتنمو الأديان في جو طبيعي غير مقسور، وبعيداً عن التطرف، وردود الفعل .

ـ على الصعيد الغربي.. فإن فصل الدين عن الدولة كان تحقيقاً لحسم ظاهرة قائمة من خلال تدخل الكنيسة في الحياة السياسية، ووقوفها عقبة أمام التطور، وبحث الإنسان عن الانعتاق، بينما لا وجود للحالة الكنسية، أو للمؤسسة البطريركية في الإسلام، وهذا عامل مساعد يفتح المجال لمنح مفهوم الدولة المدنية بعدها المشتق من واقعنا .

                                           ****

ـ الدولة المدنية الديمقراطية، وهي ليست دولة الإلحاد والدعوة إليه، وليست بالقطع أيضاً الدولة الدينية، هي دولة المواطنين الأحرار . دولة المساواة بين جميع من يحملون جنسية الدولة، أو يقيمون فيها بشكل شرعي، بغض النظر عن الجنس(النساء والرجال)، أو القومية والأصول العرقية، أو الدين والمذهب، فالجميع سواسية في الدستور، وأمام القوانين المعمول بها، والجميع لهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات، بما في ذلك حقهن في تولي كافة المناصب في الدولة، ومنها منصب رئيس الجمهورية، وغيره .

ـ الدولة هنا : مدنية، أي ليست أحادية لحزب أو جهة، وليست عسكرية، او دكتاتورية، وإنما دولة الجميع عبر صناديق الاقتراع، ومن خلال هيئات المجتمع المدني والأهلي التي تشكل قاعدة الاستناد والحركة في المجتمع، وفقاً لقوانين ناظمة لدورها، وحقوقها، وموقعها من النظام الحاكم، وتعتبر الانتخابات الشكل الأمثل لاختيار نواب الشعب، والقوى التي تمثله، كما وأن الدستور العصري الذي يحدد أسس بنيان الدولة، وجوهرها، وحقوقو وواجبات المواطن هو الركيزة الأساس، بينما تكون القوانين المنبثقة عن الهيئات التشريعية والمخولة هي الحامية لأمن المجتمع، وحقوق المواطن. أما انفصال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية فهي سمة مميزة كي تبقى هي السيدة، المشرفة على عمل السلطة التنفيذية، وصاحبة الصلاحية في مراقبتها، ومحاسبتها، ونزع الثقة عنها ـ وفقاً لنصوص الدستور وطبيعة نظام الدولة : رئاسياً كان أم برلمانياً ـ بينما يكون استقلال القضاء عن جميع السلط ركيزة هامة كي يحقق العدالة والمساواة في احكامه بين جميع المواطنين بعيداً عن تأثير السلطة، والتدخلات .

ـ الدولة المدنية الديمقراطية وهي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين في الدخل والثروة العامة وفق قواعد تكافؤ الفرص، واحترام الملكية الخاصة، وتوليها مسؤولية القطاعات والخدمات الأساسية .. كالثروات الاستراتيجية، والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والصحي، فإنها تسعى لتحقيق التوازن في المجتمع من خلال النظام الضريبي، والقوانين الاجتماعية الناظمة للمجتمع، وعبر الاعتراف بالحقوق القومية للأقليات القومية، وحقوق العبادة والعقيدة والرأي والصحافة والتعبير دون أن يطال القانون من يمارسها..

ـ في الدولة المدنية الديمقراطية يكون الجيش وطنياً تابعاً لمؤسسة الدولة، بعيداً عن الحزبية والتحزب، والاشتغال بالسياسة، مهمته الرئيس حماية حدود البلاد وتحرير المحتل منن الأرض، وتوفير أمن الوطن والمواطن وفق المهام المحددة له .

ـ الدولة في هذه الوضعية لا تتبع أي اديولوجية محددة، فهي دولة الجميع، أما السلطة فيحدد صندوق الاقتراع في انتخابات نيابية نزيهة تؤمن التكافؤ لجميع القوى والأحزاب، طبيعتها المرحلية، ويعود للشعب تدعيمها، وتثبيتها، أو سحب الثقة منها، وتغييرها عبر مجلس النواب، أو في دورات الانتخاب المتعاقبة، وبتكريس الحوار والتفاعل والتنافس سبيلاً للعلاقات بين مختلف المكونات، والتداول السلمي على السلطة .. واحترام نتائج صندوق الاقتراع مهما تكن النتائج. واعتماد نهج المصالحة الوطنية التي ترسخ وتعزز الوحدة الوطنية، وتمنع الانفجارات القومية والدينية والمذهبية .