صناعة الحياة
حامد بن أحمد الرفاعي
مع مطلع التسعينات من القرن العشرين طرحت شعار"الحياة في سبيل الله أسمى أمانينا"توازيًا وتكاملاً مع شعار"الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"حيث اتخذ بعض الدعاة شعار"الموت في سبيل الله"أنشودتهم التي يكررونها بمناسبة وغير مناسبة..وكأن المسلم ليس له غاية إلا الموت في سبيل الله..ونسي هذا النفر الذي لا نشك في غيرتهم وإخلاصهم ونواياهم الحسنة أن الإسلام قدم الحياة في سبيل الله على الموت في سبيل الله..وأن كلاهما مغنم بلا شك..وغفل هؤلاء الإخوة كذلك عن كون الحياة في سبيل الله هي السبيل الصحيح للموت في سبيل الله.. فالذي لا يحيى في سبيل الله لا يمكن أن يموت في سبيل الله..فالحياة في سبيل الله هي الضامن الحقيقي للموت في سبيل الله..وعلقت في إحدى المناسبات على من اعترض عليّ من أنصار شعار"الموت في سبيل الله .. "فقلت:يا أخي الحبيب إن صناعة الحياة مقدمة في الإسلام على صناعة الموت..وطربت يومها أن وردت على لساني عبارة"صناعة الحياة"وبعد زمن تأملت عبارة"صناعة"فأحسست أنها ربما تتضمن شبهة من الخلل الشرعي..حيث أن الموت أمر مقدر من الله تعالى لا يستطيع أحد من البشر أن يصنعه أو يقدمه أو يؤخره..ولكن لكون العبارات تبقى عادة عزيزة على نفوس من نحتوها..ولكوني طربت وسررت أن وفقت لنحت عبارة"صناعة الموت"وحرصًا مني ألا ألغيها وأخسرها فقلت في حوار مع نفسي:لعل تعديل العبارة لتكون"صناعة أسباب الموت"يخرجني من الحرج الشرعي الذي أحسست به..ثم قلت وأنا لا زلت أتحاور مع نفسي:أليست أسباب الموت والموت كلها من قدر الله..؟وهنا تداعى إلى ذاكرتي قولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:"نفر من قدر الله إلى قدر الله"فقلت لنفسي:كل عمل المسلم وقوله من قدر الله مادام يبذل ذلك خالصًا لله وفي تحقيق مرضاته سبحانه..فارتاحت نفسي للتعديل الذي أدخلته على العبارة لتكون"صناعة أسباب الحياة في الإسلام مقدمة على صناعة أسباب الموت في سبيل الله"ولأن العرب تحب الإيجاز ويدخل في بلاغتهم اللغوية..أخذ الناس يرددون عبارة "صناعة الموت"إلا أن البعض أسرف في استخدام عبارة"صناعة"فألحق بها مسميات متنوعة منها ما هو معقول..ومنها ما هو غير مستساغ..فأصبح يتردد على ألسنة الناس وفي كتاباتهم عبارات مثل: (صناعة الذكاء، وصناعة المواهب، وصناعة الثقافة، وصناعة القائد، وصناعة الفكر، وصناعة الثقة، وصناعة التفاؤل، وصناعة الإخلاص، وصناعة الإيمان، وصناعة الحب، وصناعة الكراهية، وصناعة الأعداء، وصناعة الأصدقاء ..إلخ) وهكذا أخذت العبارة تفقد جمالها ودلالاتها العميقة..واختلطت صناعة الماديات والأشياء بصناعة المعنويات والقيم اختلاطاً مسرفاً.