من هو الكاتب؟.. وخبرتي مع الكتاب
من هو الكاتب؟.. وخبرتي مع الكتاب
صادق جواد سليمان*
مع أننا نبهر كثيرا بمبتكرات الحداثة المحيطة بنا والميسرة احتياجاتَ حياتنا في هذا العصر، ونتخيل العصورَ الأولى عقيمةَ الابتكار، إلا أن نظرة أدقَ تبدي لنا أن ابتكاراتٍ انسانيةً هامةً نتجت في عصور ما قبل التاريخ المكتوب، وأن ما استتبع من تقدم حثيث في المسيرة البشرية جاء تطويرا - متنوعا ومتوسعا طبعا - لتلك الابتكارات الأم.
من المكتشف، مثلا: في أفريقيا قرائنُ دالة على استعمال النار وعُدةِ عمل ... في اليابان آثار مبان بدائية ... في أوروبا آثار أعمال فنية وآثار صناعةِ زوارق وأسلحة ... في الصين آثار صناعة الفخار... في فلسطين آثار صناعة النسيج ... في فينيقيا آثار صناعة الزجاج ... وفي مصر قرائن تصنيع القرص الشمسي. أما في أرض الرافدين، فقد عثرنا على آثار ابتكار الزراعة وتربية الحيوان واختراع العجلة وصك النقود وتصنيع آلات موسيقية. كل ذلك حفظتها الأرض لنا أثريا من عصور ضاربة في القدم.
إلا أن ما وسم أرض الرافدين تخصيصا بمهد حضارة الإنسان كان ابتكارُ الكتابة. بظهور الكتابة يفارق مؤرخوا الحضارات بين عصر ما قبل التاريخ والعصر التاريخي. أيضا بظهور الكتابة يؤرخون البزوغ الحضاري. معالم جنسنا البشري تشكلت وضوحا قبل مئتي ألف عام. لكن، لمئتي ألف عام كنا ننطق دون أن نكتب. بابتكار الكتابة منذ خمسة آلاف عام فقط نشأت الحضارات الأولى في سومر ومصر والهند والصين. من هذه الحضارات الأم، الحضاراتان الهندية والصينية وحدهما احتفظتا بتواصل تاريخي منذ البزوغ حتى اليوم.
وإذا كانت الكتابة أول معلم حضاري، فالقانون أول معلم كتابي. فيما نزل من السماء، أو فيما تبلور ضمن الاجتهاد الإنساني على الأرض، القانون كان أول نص نظم الشأن السياسي الاجتماعي البشري. قبل حوالي ثلاثة آلاف وثمانمائة عام، حفر حمورابي في بابل مدونته القانونية المؤلفة من مائتين واثنين وثمانين مادة على اثني عشر لوحة نصبها في ساحات عامة ليقرأها الناس فيعلموا ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. أربعة قرون لاحقا نزلت التوراة مواصلة التنوير والتقنين. بمثل ذلك - في تزامن - خطت صحف في الهند والصين، مؤذنة بإنتفاض حضاري.
سقت هذه المقدمة الوجيزة بدءا لنتوضح حول التطور التاريخي المديد الذي نتحدث في نسقه عندما نتحدث عن الكتابة والكاتب. رُغم الفارق بين ما كانت عليه الأمور قديما وما هي عليه اليوم، الكتابة بقيت حافظة العلم ووسيلة تعميقه وتعميمه، لذا العاملَ الأول في دفع التطور الحضاري. من هنا الاهتمام عالميا عبر التاريخ بالكتابة - الكتابة بحفر الرسوم ابتداء ثم بحفر رموز الرسوم ثم بالخط الأبجدي. ورُغم صعوبة الكتابة بتلك الأساليب، واصلت المجتمعات البشرية عملية التدوين والتأليف بجهد جهيد، إلى أن اخترع الورق في الصين، واقتبس صناعته العربُ بسمرقند في القرن الثامن الميلادي، ثم اقتبس الغرب صناعة الورق من العرب في الأندلس في القرن الثاني عشر، ثم اخترع الغرب – ألمانيا تحديدا - بعد قرنين آلة الطباعة. بتزاوج الورق وآلة الطباعة منذ القرن السادس عشر قفزت عملية الكتابة والنشر قفزة ضوئية. ومع مطلع القرن التاسع عشر بانتشار المدارس عُمم التعليم الابتدائي فنشطت ممارسة الكتابة نشاطا غير مسبوق.
من هنا أيضا تثميننا دور الكاتب عبر التاريخ في تنوير مجتمعه، ومن بعد ذلك دوره في إثراء المشهد الثقافي وتشييد الصرح المعرفي عبر العالم. تخطيط الكتب كان من أصعب المهام قبل عصر الطباعة على الورق، لذا اليوم نحن نثمن المخطوطات تثمينا خاصا لما مورس في تخطيطها من صبر وصرف من جهد، بصرف النظر عما تحتويه المخطوطات، أو ما آل منها إلينا، من سمين أو غث.
ومن يكون الكاتب؟ كان ولا يزال: قصاصا وروائيا وشاعرا وناقدا ومؤرخا ومفكرا وعالما متخصصا في علم طبيعي أو إنساني. هو اليوم أيضا إعلامي يكتب يوميا أو دوريا عن أحداث جارية في مختلف حقول الحراك البشري. هو اليوم أيضا شارح للناتج العلمي المتبلور من خلال مواصلة الدراسة والبحث من قبل المتصدرين الحركة العلمية عبر العالم. هو في عصرنا أيضا مدون إلكتروني. وهو في كل ذلك قد يكون كاتبا محترفا متفرغا للكتابة، أو ممارسا الكتابة كنشاط جانبي في حقل مأثور لديه.
أيا كان مجاله ونمطه، دور الكاتب طالما اتسم بالريادة، ومهمته طالما اتسمت بالتنوير. مَن من الكتاب هكذا يعي دوره ويثمن مهمته لا يعفى نفسه من أن يكون مجيدا للكتابة، دقيقا في النقل، منهجيا في العرض، بارعا في الشرح، وفي جميع الحالات مراعيا مطلبي صدقيةَ النقل وسلامةَ ممارسة حرية التعبير في مجال التحليل والتقييم. أما حيث يتهاون الكتاب في أيما مجتمع بمراعاة مواصفات مهنية راقية للكتابة، فهنالك يتدني مستوى الكتابة، فينصرف جمهور القراء، بالأخص منهم الأكثر وعيا وقابلية في التأثير، عن كتابات الكتاب في مجتمعهم إلى كتابات كتاب آخرين.
إلى جانب صقل مهني في الإخبار والشرح تتطلب الكتابة قدرة على التحليل والتقييم. لممارسة دوره رياديا وتنويريا في مجتمعه، على نحو مفيد وناجع، لا ينبغي للكاتب أن يكتفي بمجرد نقل حدث أو وصف حال سائد أو إيراد نص خطاب أو ترديد تصريح رسمي. هو مطالب أن يتناول أيضا ما قد يترتب على الحدث أو على استمرار الحال السائد أو على الخطاب الرسمي أو على السياسة المصرحة من آثار إيجابية أو سلبية حسب ما يستنبط ويقدر. هو مطالب بالتفنيد والتمحيص، وسوق ما يدعم زعمه ويرجح رأيه بموضوعية وعرض رصين. بذلك يمارس الكاتب دورا فاعلا في تبصير اجتهادات مجتمعه – أكان على صعيد تكون الرأي العام أو تشكل التوجهات الرسمية حول أيما موضوع هام - كل ذلك بغية الوصول للأوفى والأمثل من المعالجات والحلول بمعيار خدمة الصالح الوطني في المؤدى الأخير. بذلك يغدو الكاتب ممارسا دورا رياديا وتنويريا في مجتمعه، ويغدو حقا أهلا لكل تقدير.
الريادة أداء متميز من موقع اعتيادي، وكونها كذلك، هي متاحة لأي أحد منا من موقع عمله وحسب استطاعته. إلا أنها متاحة للكاتب بشكل أخص. هي متاحة له ليس في النقل والشرح والتقييم للأمور السائدة أو الجارية فحسب، بل أيضا في المجال الفكري المعني ببحث المفاهيم وتطوير الرؤى في اتجاه الأجدر والأوفق من الترجمات العملية في الواقع المعاش. بذلك ترتدف الريادة بمهمة التنوير – أي التبصير بالأوفى والأمثل وطنيا وإنسانيا باطراد. لا يتغير شيئ ما لا يتغير تفكيرنا حوله. ولكي يأتي التغيير في اتجاه الأصلح لا بد من أن تسند مبرراته معرفيا ومقاصده أخلاقيا في جميع الحالات. ولأن دور الكاتب ريادي وتنويري معا، لزام عليه أن يحرص دأبا على أمانة النقل وصدقية الإخبار وموضوعية الرأي ورصانة العرض في كل ما يكتب. فللكلمة مسؤولية يجب أن تراعى في جميع الأحوال – سواء أطلقناها نطقا، أو سطرناها كتابة، أو حتى همسناها همسا خلف جدران.
خبرتي مع الكتاب
(كلمة في ندوة يوم الكتاب العالمي، جامعة السلطان قابوس، مسقط: 25 أبريل 2010)
عندما دعيتُ للمشاركة في هذه الندوة بمناسبة يوم الكتاب العالمي، أوعِز لي أن أتحدث عن خبرتي الشخصية مع الكتاب – لا كورق وحبر بين دفتين، مركونٍ إلى رف في مكتبتي، وإنما كحاضن معرفي فكري أسهم في صياغة نظري ونهجي في الحياة. لذا في عرضي سأحاول ما أمكن رسم معالم سيرتي الفكرية المعرفية مع الكتاب منذ أبكر ما أتذكر وصولا إلى حيث أنا عنده اليوم من نظر ونهج.
لأبدأ بالسؤال: ما دور الكتاب في حياتي؟ وجوابي إجمالا: الكتاب كان ولا يزال المعلمَ الأول في تكويني الفكري المعرفي. منذ أن وعيت على نفسي أكاد لا أتذكر يوما لم أجلس فيه إلى كتاب.
أتذكر: صديق زارني يوما قبل سنوات في شقتي في مسقط، منطقة روي، وأنا جالس لوحدي بين كتبي، فأشفق علي من العزلة، وقال: ماذا تصنع وحدك بين هذه الكتب؟ ألا تستوحش؟ ألا ينتابك سأم؟ فأجبته: هي تبدو لك كتبا، وهي كذلك، ولكن بين دفتي كل كتاب شخص أدار نظره في شأن من شؤون الحياة، ثم أفرغ خلاصة نظره في كتاب، وحظي أنه بذلك مكنني من أن أتعرف على فكره ومحصلة معرفته، وإن لم أتعرف عليه شخصيا. من هنا استئناسي بالكتاب هو في الحقيقة استفادة من كريم عطاء مؤلفه.
في مكتبتي اليوم قرابة ألف كتاب، أقدمها - بمعيار قِدم اقتنائي له – كتاب باسم جامع المقدمات وهو ما درست فيه على يد عالم دين بمطرح أواخر الأربعينات. ثاني أقدم كتاب لدي هو بالإنكليزية باسم الفلاسفة السياسيون واقتنائي له كان عام 1952 بمملكة (سابقا إمارة) البحرين. الكتاب الأول يحتوي على مقدمات في بعض علوم العربية، كالصرف والنحو والمنطق وعلم الكلام والفلسفة. الكتاب الآخر يعرض الفكر السياسي لبعض أبرز فلاسفة الغرب: جون ستيوارت ميل عن الحرية، جين جاك روسو عن العقد الاجتماعي، هنري ديفيد ثورو عن العصيان المدني، جون لوك عن منشأ ومدى ونهاية الحوكمة المدنية، كارل ماركس عن البيان الشيوعي، آدم سميث عن ثروة الأمم، وفريدرك هيغل عن التاريخ الفلسفي.
وما نوع الكتاب الذي كان جليسي المفضل؟ هو الكتاب الذي ليس فقط ساق لي معرفة فيما جهلت، بل أيضا ابتعث لدى التفكير فيما عرض، ومن ثم أثار توقا في نفسي لمعرفة أوفي، ليس في العلوم العربية الإسلامية فحسب، وإنما أيضا في فكر وعلوم الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها حضارات الصين والهند والغرب – كل واحدة من تلك بأنساقها الثلاثة: الديني والفلسفي والمعرفي.
أتذكر أيضا من أربعينات القرن الماضي أن أستاذا لي على مستوى معرفي متقدم في العلوم الإسلامية والمعارف العصرية بسواء، مر يوما على والدي بمتجره بالسوق، وأنا أيضا حاضر، فقال له والدي مستبشرا: ألاحظ على صادق أنه يقرأ في كتاب الكافي (كتاب مرجعي لدى الشيعة). فاعترض أستاذي قائلا: لا يحسن لناشئ أن يقرأ في مثل هذه الكتب الدينية العويصة. الأجدى لصادق أن يقرأ كتبا معاصرة يستفيد منها تناسبا مع سنه. فوقع كلام الأستاذ مني موقع الإرشاد.
وما الذي دلني إلى الكتاب؟ ما الذي آلفني به حتى اتخذته جليسا يفيد ويؤنس، ولا يُمَل؟ الذي دلني أن الوالد، رغم كثرة مشاغله، كان يفرغ وقتا للمطالعة ويذكر لي من حين لآخر شيئا مما قرأ واستحسن. ولأن ما كان يذكر لي أحيانا لم يكن من المعرفة المألوفة في مجتمعنا آنذاك، كحديثه عن العهد العربي الإسلامي في الأندلس، أو حملات اسكندر العظيم، أو معاني بعض أشعار ابن الفارض، أو قصص من كشكول البهائي، صرت أدرك أن ما يأتيني به الوالد مصدره الكتاب. قلت في سري: إذن دعني أتجه إلى النبع بنفسي ما أمكن.
وماذا كانت، من بعد ذلك، مجالات القراءة المأثورة لدي على نحو مستدام؟ بداية، كانت قراءات في الأديان، تلتها قراءات في الفلسفة، تلتها قراءات في العلوم الطبيعية، رغم محدودية الأهلية لدي للتعمق في هذا المجال الأخير. من هذه الروافد الثلاثة انتسج مُدركي الفلسفي لطبيعة الوجود، وتكون نظري حول هذه الحياة التي نتشاركها لأجل قصير على هذا الكوكب السيار، واعيين طبعا أن أجيالا لا تحصى قد وطأت أديم الأرض من قبلنا، وأجيالا من بعدنا ستطأ: أي الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري في قوله:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فإين القبور من عهد عاد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد
خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا بهذه الأجساد
فقبيح بنا وإن قدم العهد هوان الآباء و الأجداد
وماذا عن قراءات في السياسة، علما أنني عملت بضع سنوات في الصحافة في الكويت خلال الستينات، ثم عشر سنوات في العمل السياسي/ الدبلوماسي العماني خلال السبعينات وشطرٍ من الثمانينات؟ نعم، قراءات في الإعلام والسياسة والاقتصاد وقضايا التنمية عنيتُ بها فترة من الزمن، بالأخص خلال دراستي الجامعية في السياسة الدولية العامة، لكنها لم تشكل لدي يوما صلب الاهتمام. تركيزي المعرفي ظل، ولا يزال، في الدين والفلسفة ومحاولة فهم السنن الطبيعية وتمظهراتها في الواقع المعاش.
ماذا قرأت في الأديان؟ ماذا قرأت في الفلسفة؟ ماذا قرأت في السنن الطبيعية؟ ثم، ماذا استخلصت إجمالا من كل هذا الذي قرأت في الكتب التي لا تزال تملأ رفوفا من حولي؟
في الأديان قرأت أن الدين القيم واحد، وهو المتوائم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ... أن تعددية الأديان لا تنفي وحدة الإنسانية، فالناس طرا خلقوا من نفس واحدة، ويخضعون لناموس واحد، أن تعددية الأديان والمذاهب لا تنفي وحدة الوعي الإنساني الفطري بوجود الخالق ووحدانيته، وهي أيضا لا تنفي وحدة المُدرك المعرفي بالسنن الطبيعية، فمن مُدركنا المشترك بالسنن الطبيعية تتكون المعرفة المشتركة التي نتدارسها في معاهدنا وجامعاتنا، وهي ما يعمل بها الناس تطبيقيا في تدبير سائر أمورهم الحياتية عبر العالم.
في الفلسفة قرأت أن كل واحد منا يتفلسف، بمعنى أنه يخمن طبيعة الوجود على وجه أو آخر، ويفسر أمور الحياة من خلال ما يعلم ويختبر. ومع أنه يدرك محدودية علمه وقصور خبرته، إلا أنه لا يملك إلا أن يعمل بما يعلمه تحقيقا، ويختبره صحيحا بالمنطق العقلي. من الأمور ما هي بسيطة وشخصية، كأن كيف يُعنى أحدنا بصحته، ومنها ما هي معقدة وذات طابع عام، كأن كيف يكوّن أحدنا نظره في قضايا كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وكرامة الإنسان وما يتصل بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، هذا فضلا عن تكوين النظر في طبيعة الوجود ومصير الإنسان بعد الموت. ولعلي أذكر مرورا أن أول تعرفي على تعريف للفلسفة كان من قرأءتي في سن مبكر رواية " كاونت دي مونتي كرستو" للروائي الفرنسي ألكسندر دوماس. كان المشهد في الرواية حوارا مرسلا بين شاب غرير وعالم غزير العلم جمعتهما عزلة زنزانة سجن. ذكر العالم عَرَضا الفلسفة فتساءل الفتى: وما الفلسفة؟ فأجاب العالم بإيجاز شديد: إنها المعرفة الإجمالية التي تنتسج في الذهن من استيعاب مختلف المعارف.
في السنن الطبيعية قرأت أنها مستودع مشيئة الله، لذا لا تبديل لها ولا تحويل، فهي ذاتها السارية في الكون بأسره: على كوكبنا هذا كما في أقصى جرم في أنئى مجرة في الكون، أن مشيئة الله تسري بإحكام، أنها تهيمن على كل صغيرة وكبيرة في كل حركة وظرف وزمن. ومن هذه السنن ما تحكم الحال الإنساني بقسطاس مستقيم: لا تحابي أحدا ولاتجافي أحدا، لا تعلي فردا على فرد، ولا أمة على أمة، إلا بقدر ما يتسق الأفراد والأمم في مناهجهم وسلوكياتهم مع مقتضيات المشيئة الإلهية المؤصَلة، مسبقا وجذريا، في السنن الكونية والحياتية التي لا تُعترض ولا تُرد.
وما هي الأفكار الأساس في الشأن الإنساني التي استخلصتها من قراءاتي في الكتاب؟ في تهذيب الشأن الإنساني وارتقائه، على صعيد فرد أو مجتمع، استخلصت أفكارا ست، واستنتجت أنه بقدر التزام الإنسان بهذه الأفكار وتطبيقه لها بشكل جاد وأمين في الواقع المعاش يستقر وضعه، يعلو شأنه، وتطيب حياته.
الفكرة الأولى هي أن البشر جنس واحد، وإذن، ما يصدق في حال أي فرد أو مجتمع، يصدق في حال سائر الأفراد والمجتمعات: أي أن العوامل المؤثرة أيجابا أو سلبا في أحوال الأفراد والجماعات هي نفسها بالنسبة للناس في كل زمان ومكان. بتعبير أدل: هناك ميزان كوني واحد يزن ويجازي أعمال الناس كافة، أفرادا وأمما، ثوابا وعقابا، بقسطاس مستقيم.
ليس هذا بكشف جديد، فلطالما أخبرت عن وحدة الحال البشري، وعن القسط الكوني الذي يحكمه، أدبياتُ مختلف الشعوب، أصيغت في دين أو في فكر فلسفي. من بين فلاسفة الإغريق، مثلا، نجد أن سقراط وأفلاطون وأرسطو في تنظيرهم حول مسألة الأخلاق، رأوا الحال البشري حالا مشتركا، وأبصروا من وراء تعدد خبرات الناس ومكتسباتهم وحدة جوهرية من حيث قدرة الناس جميعا على الإدراك عقلا لما يصلح ويرقي به حال الإنسان وما يفسد ويتدنى به، فردا ومجتمعا، أيا كان الإنسان وأيا كانت بيئته وخلفيته. لدى الرومان نقرأ للأمبراطور الفيلسوف ماركس أوريليوس قناعته بوجود مسار واحد للناس كافة صعودا وهبوطا على المدرج الحضاري: مسار واحد لكائنات تتماثل جسما وعقلا، حسب تعبيره.
مثلَ ذلك نرى عند أهل الحكمة الدينية في الهند قديما، بشقيه الهندوسي والبوذي، إذ قالوا بفكرة أن الإنسان يصعد أو يهبط في إنسانيته بأثر ما يأتي من عمل صالح أو طالح. على مثل ذلك أيضا نعثر لدى أهل الحكمة الأخلاقية قديما في الصين، كما عند كنفيوشس وشيعته، الذين ربطوا فلاح الأفراد والمجتمعات بمدى الالتزام بالضابط الخلقي المحقق في المسلك الاجتماعي. وقال المسيح في وعظة الجبل، موجزا منظومة مكارم الأخلاق، ومؤكدا الحال البشري الواحد الموجب للتعامل بالمثل: في كافة الأمور ما تود أن يعمل الناس لأجلك اعمل لأجلهم، تلك هي سنة الأنبياء.
أما الاسلام فبأصالة نظره في النفس البشرية والفطرة التي فطرت عليها، وفي السنن الكونية الحاكمة أمرها، نراه قد عنى بصلاح البشرية دون استثناء، أفرادا وأمما، لذا خاطب الناس كافة بما هو بينهم أصيل وعام، وخاطبهم على لسان نبي أرسل رحمة للعالمين. ذكّر الإسلام الناس أنهم جميعا مخلوقون من ذكر وأنثى، دعاهم إلى التعارف ما بينهم، وفاضلهم في الكرامة عند الله لا بنسب أو حسب، ولا بمال أو سلطة، بل بالتقوى، أي بالخُلق الكريم.
الفكرة الثانية هي أن الحرية والمسؤولية هما بمثابة كفتي الميزان، لا بد من تواجدهما معا في تقابل لأجل تحقيق النماء وتعزيز الوئام معا في ترادف وتزامن. على أن الأصل في حال الإنسان أن يكون حرا أي أن يكون متاحا له أن يفكر ويعبر ويتفاعل مع غيره دون أي قيد غير مبرَر بمقتضى الصالح العام.
الفكرة الثالثة هي أن المساواة بين الناس أساس العداله بينهم، لذا بإعلاء امتيازات قلة على حقوق كثرة تتشوه الحياة الاجتماعية ويتعثر تقدم المجتمع نحو الأوفى والأمثل في التحقق الحضاري.
الفكرة الرابعة هي أن العدل أصل من الأصول المقومة للخبرة البشرية. في ممارسة العدالة أختبار صارم للإنسان، بالأخص إذا كان في موقع مسؤولية عامة ائتمن عليها في مجال تدبير الشأن المشترك. علما بأنه إذا أدى المرء مسؤوليته بكفاءة وأمانة سعد وارتقى في إنسانيته، وإذا قصر مهملا أو جانبنا الأمانة في الأداء ارتكس.
الفكرة الخامسة هي أن حرمة الإنسان وكرامته لا تمسان في أي ظرف. الحرمة تعني أن لا يضار إنسان بدون مبرر مشروع، أن لا يعتدى عليه، أن لا يهان. الكرامة تعني – من بعد ضمان الحرمة – أن تسد حاجات الإنسان الأساسية، أن تنمىَ قابلياته، أن يُمكّن من كسب عيش كريم، فلا يضطر لمد يد الحاجة صاغرا إلى غيره.
الفكرة السادسة هي أن الشورى في الحكم والحياة مطلب أساس لضمان حوكمة رشيدة وحياة اجتماعية مستقرة منتجة. الحكمة مشاعة بين الناس، لذا كلما توسعت دائرة النظر والتقرير في الشأن العام من خلال مؤسسات منتخبة من عامة المواطنين، كلما نحت اجتهادات الأمة منحى الرشد والصواب.
أخيرا ملحوظات أربع هي أيضا تدخل في نسيج منظوري الفكري المعرفي المتكون من مجالستي مدّ العمر للكتاب ... أوردها باختصار:
الملحوظة الأولى: الطاقة الفكرية في جنسنا البشري تبلغ أنشطَها حتى العشرين من العمر، بحكم أن خلايا المخ تكتمل عددا في العام الخامس من العمر، ثم من بعد العشرين تبدأ في التناقص. إذن لنعمل على رصد النبوغ واستظهاره وتعهده وتفعيله، مبكرا في صفوف المدارس والجامعات.
الملحوظة الثانية: العلم مُمكّن وليس بمرشّد. العلم يمكن أن يُسخّر لخير أو لشر. بالحكمة تُرشّد المُكنة المولَدة بالعلم، فتُوجَه مبكرا وجهة الصلاح.
الملحوظة الثالثة: القيادة أداء متميز من موقع متميز. الريادة أداء متميز من موقع اعتيادي. القيادة تمارسها قلة لأجل محدود. الريادة الاجتماعية المعرفية المهنية متاح مجالها للجميع لأجل مفتوح. إذن لنتسابق إلى ممارسة الريادة، كل من موقعه وفي مجاله. ولندرك أن أمثل القيادات تنشأ من أمثل الريادات.
الملحوظة الرابعة: الأخلاق أساسية في تقويم الحياة على صعيد الفرد والمجتمع بسواء. الانضباط الخلقي يعد أحد الممكنات الرئيسة الأربعة التي، مُجتمعةً، تمكّن من الارتقاء الحضاري: الممكنات الثلاثة الأخرى هي: المعرفة العلمية، القدرة الإنتاجية، التنظيم السياسي الجيد. فإذا شئت أن ترصد إن كان مجتمع ما متحركا في أتجاه تحقق حضاري، فارصد تطوره على هذه المسارات.
حول الأخلاق يقول كنفيوشس حكيم الصين قديما مخاطبا صاحب السلطة في بلده: إذا أنت قدتَ شعبك سلطويا – أي باستعمال العقوبة المقننة - فإنهم سيتجنبون خرق قوانينك ليتفادوا عقوبتك، لكنهم لن يتمرسوا في التمييز أخلاقيا بين الصالح والطالح من الأعمال. اما إذا قدتَ شعبك بالفضيلة، ورشدتهم بمكارم الأخلاق، فسيتعودون على صالح الأعمال فيأتونها سجيةً، دون رادع خوف أو دافع طمع.
يستطرد كنفيوشس ناصحا: كل الصلاح منشؤه من داخل الإنسان الفرد، ومن الفرد يسري في الأسرة، ومن الأسرة يسري في المجتمع، ومن المجتمع يسرى في الدولة المنظمة للشأن العام. وعندما تكون الدول على صلاح، يعم السلام واليسر عبر العالم. بمعنى آخر: أيا كان مستوى المرء وموقعه في مجتمعه، عليه أن يتخذ تهذيب النفس منطلقا جذريا لتحسين حاله، وتباعا لتحقيقِ الصالح العام.
أخيرا: كيف يكون إحساس المرء إزاء تبلور الفكر معرفيا في خبرته؟ في تبلور الفكر معرفيا نوع من الإشراق: كلما بزغت في وعيي فكرة كانت قبلا من وراء حجاب، أو تنامى لدي فهم جديد، شعرتُ بتمدد في الفضاء الداخلي وبإضاءة تجلي ما كان غامضا أو باهتا من قبل. وعندما اطلعت لاحقا على قول ابن رشد أن التفكير أرقى وظيفة يمارسها الإنسان، تعزز إدراكي كم في التفكير المعرفي من عائد لا يُستعاض.
خلاصة، إذن، القراءة في الكتاب، التفكر في الوجود، البحث في الطبيعة، التعاون لأجل تحقق حضاري مستدام للأوفى والأمثل للإنسان عبر العالم ... تلكم عناصر منظومة منهج كان منذ الصغر في صلب ما دفعني لاحقا بشكل أوضح وأركز إلى أن أنحوَ منحىً معرفيا فكريا في محاولة الاستنارة ... محاولة استجلاء وجه السداد في فهم الأمور، بما في ذلك محاولة فهم الخبرة الإنسانية قديما وفي هذا العصر الحديث. عبر هذا المشوار الطويل، وأنا اليوم مشرف على العقد التاسع، كان الكتاب ولا يزال المعلمَ الأول... كان ولا يزال المَعينَ الذي لا ينضب، الحاضرَ إذا استحضرتُهُ، والمُعينَ أذا استعنتُه ... في أي ظرف ووقت. ***
· صادق سليمان (سفير سابق وكاتب ومفكر عُماني)