في دار الاستشفاء
في دار الاستشفاء
الجزء الثاني عشر
من يوميات بلا أسرار في المخيمات
نسيبة بحرو
من حرة ، انطلقت الحرائر إلى المخيمات ، يدفعهن الدور الأسمى والواجب النبيل .. ويحفزهن اليقين بأنهن رغم محدودية الإمكانات ، قادرات على طبع بصمة ورسم بسمة وتخفيف لوعة .. إنهن فريق الدعم النفسي لرابطة حرة النسائية ، ومما روينه لي كتبت هذه الحلقة .....
إنه موقف صعب ، والرهبة سيدته .. تنظر كل منهن إلى الأخرى ولسان حالها يقول : تقدمينا . فهن الآن في الزيارة الأولى لدار الاستشفاء في الريحانية ، حيث الجرحى وأصحاب الإعاقة والمتضررين جسدياً من نيران الأسد الآثمة .. تتخيلن أجواء الألم والإحباط وحالات الانهيار عند المصابين ، وتتوقعن أن تتم مقابلتهن بالرفض أو الطرد .. ومع ذلك لم تضعف ارادتهن ولم تحبط عزيمتهن ، وبتوكلنا على الله .. دخلن دار الاستشفاء ..
زرن عدداً من نزلاء المشفى ما بين مصاب الطلق وجريح القنص ومعاق القصف ، وأمضين معهم بعضاً من الوقت كان كفيلاً بتبديد الرهبة ، لتحل محلها الدهشة والانبهار بذلك الاستقبال والترحيب بهن ، وبتلك المعنويات العالية والتسليم ، وبالمواقف العظيمة التي تعلن الصمود ورفض الانكسار ..
فذلك الشاب يرقد فاقد اليد اليسرى والقدم اليمنى وتشتعل كلماته ايماناً ويقيناً : مهما سببوا لي من عاهات لن يقتلوا داخي الإصرار والعزيمة .. وآخر فقد قدمه اليسرى يحمد الله أن أبقى له القدم اليمنى ليدعس بها على رأس بشار ، مضيفاً أن أحلى لحظات الحياة هي تحت القصف ..
ومن أبطال الجيش الحر ذلك الشاب الذي أصابته رصاصة في ظهره بالشلل ، يقول لهن أن دوره لم ينته بعجزه ولا شئ يوقف جهاده في سبيل الله طالما لا زال يمتلك نعمة الحركة في اليد واللسان .. فيده التي كانت تطلق النار في المعركة ، تطلق اليوم من سريره كلمة الحق في جهاد الإعلام الإلكتروني .. ولسانه الحر لا يتوقف عن الابتهال والدعاء ..
في المشفى لاحظن انتشار حالات الصمم الجزئي والكلي بسبب الثقوب في طبلة الأذن ، يسألهن أحد كبار السن المصابين بذلك عن احتمالية الشفاء ، لأنه يأمل العودة إلى سوريا لدعم الثورة بيد أنه قلق من عدم مقدرته على تمييز مصدر الرصاص واتجاهه في ساحة المعركة..
قابلن أيضاً عدد من السيدات والتمسن فيهن الثبات والرضى بما قدره الله لهن ، سيما تلك السيدة التي أصيبت في القصف ونقلت الى المشفى تصارع الموت ، أجريت لها عمليات عسيرة ونجت بأعجوبة مع بتر احدى يديها .. لم يصدقن حين علمن أنها في العشرينيات من العمر بينما يوحي مظهرها بضعف ذلك ، ورغم الإعاقة والألم .. رحبت بهن في سرور ولم تغب الابتسامة المشرقة عن محياها الحزين ..
سألن سيدة ترابط جوار زوجها الجريح إن كانت تشعر بالخوف عليه .. فاستهجنت قائلة : وكيف أخاف والله حاميه . والتقين بسيدة كبيرة في السن أصيبت في أولادها ما بين شهيد وجريح وفقدت بيتها ، وهي مستعدة للتضحية بالمزيد في سبيل الخلاص من الطاغية .. تخبرهن أنها مشتاقة لتراب الوطن وتتمنى العودة دون اكتراث أو خوف من القصف ، السعادة تسكنها مع أمل كبير تتصبر به ، وترجوهن رغم حاجتها أن ترسلن المعونات التي بحوزتهن لأبطال الجيش الحر ، دعماً لهم ليتحرر الوطن ..
لم تخلو الزيارة من مواجهة بعض الحالات اليائسة كمصاب بالشلل والاكتئاب .. حاولن التخفيف عنه فاتهمهن بعدم الإحساس تجاه ما يعاني لأنهن يتنقلن على أرجلهن في حين أنه مقعد ، وبعد محاولات منهن لإحياء القوى الإيمانية في نفسه ، توصلن إلى تذكيره بأن الله هو الشافي ولا يعجزه شئ .. ورفعت الأيادي بدعاء جماعي له ..
الهدايا التي قدمنها لكل مصاب وهي ظرف بداخله مبلغ من المال ، قوبلت في البداية بالتعفف والرفض .. فقمن بكتابة أدعية على ورق منفصل وجعلن الظرف أسفلها ، فكان دعاء الشفاء هو الغطاء للهدية دون اشارة إلى مضمونها المادي .. مما أسهم في تخفيف الحرج النفسي وتحقيق الهدف المعنوي المنشود ..
أجمعت فتيات الفريق على أن الضيق من الإصابة لأنها المانع من المشاركة في الثورة ، والرغبة بسرعة الشفاء للعودة إلى الوطن والدفاع عنه .. هي المشاعر المشتركة بين معظم من التقين بهم ..
الملفت أنه في كثير من جوانب هذه الزيارة تبدلت الأدوار في مهمة الدعم النفسي ، حيث زال القلق من فتيات الفريق وارتفعت معنوياتهن مما سمعنه وشاهدنه من بطولات وشجاعة المصابين .. وخرجن وهن يرددن : من أجلهم لابد أن نستمر ، لابد أن ننتصر ..
في حين شعرت بعضهن برغبة جامحة للمساعدة في خدمة هؤلاء الجرحى الأبطال مهما كان العمل يسيراً ، فدخلن إلى مطبخ المشفى وساعدن العاملات التركيات في غسيل الأطباق .. طوبى لهن .