النشر في فلسطين
نمر سعدي
طالما ألحت عليَّ فكرة الكتابة عن صعوبة نجاح وانتشار الكاتب الفلسطيني المقيم داخل الخط الأخضر، لا لأنها ترسم تلك الإشكالية بين النصّ والمتلقي فقط، بل لأنها من جانب آخر، تعزِّز العزلة التي تُضرب حول أصوات عديدة لها فرادتها وتميّزها وجماليتها في الكتابة الفلسطينية الجديدة. من هذه الفجوة نستطيع أن نحدّد المسافة الفاصلة بيننا وبين الفضاء الإبداعي العربي بكثير من الحسرة وخيبة الأمل، لا بل أن نقوم بمقارنات موجعة.
يسعى الكاتب الفلسطيني دائمًا إلى البحث عن دار نشر عربية، تكفل له انتشاراً وشهرةً خارج نطاق المطابع الضيّق والمحدود الإمكانات، الذي تنقصه الخبرة والطرق الذكية والحديثة. فهو، أي الكاتب، قد جرَّب على جلده في الماضي ما معنى أن يقوم بوظيفة دار النشر أيضاً من طباعة وتسويق وتوزيع وترويج. فلا شكّ في أن مسألة اللجوء إلى دار نشر كبيرة، ذات مكانة مهمّة، وتمتلك آليةً لتوزيع الكتاب الورقي وتسويقه، لها دور فعَّال في نجاح الكثير من أصحاب التجارب الإبداعية الحقيقية، بالإضافة إلى قيمة العمل ومستواه، إلا فيما ندر.
وهذا ما حدا بي إلى نشر دواويني الثلاثة الأخيرة في القاهرة، وبالتحديد لدى دار النسيم للنشر والتوزيع. بعدما عانيت من غياب وسائل التوزيع والتسويق. إذ في ما يخصّ دواويني المطبوعة في فلسطين، فقد قمت بتوزيعها بنفسي على مؤسسات ثقافية وعلى بعض المكتبات الجامعية المحلية والعالمية، وعلى أصدقائي المقربّين الذين يبادلونني مثل هذه الهدايا. ولاحظت عبر طوافي على مكتبات كثيرة، مدى تنكّر أصحاب المكتبات التجارية للكتاب المحلي. كما لو أنّه سيجلب لهم سوء الطالع.
في حيفا هناك مكتبة "كل شيء" وهي دار نشر عربية، من سنوات السبعينيات، تهتمّ بالكتابات الإبداعية والثقافية. وكثيرًا ما تعاونت مع دور نشر عربية مهمّة مثل المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، ومنشورات ضفاف والدار العربية ناشرون في لبنان في مجال إصدار الكتب. لكننا لا نكاد نجد دار نشر أخرى شبيهة بها في الجليل، في شمال فلسطين. بينما نجد الكثير من المطابع التي تتوزّع على عرض البلادِ وطولها. ومنها من يقوم بطبع عدد قليل جداً من النسخ لا يتجاوز المائة نسخة ليقينه أنه لن يفلح في بيع هذا الكتاب.
أصبح الكاتب يتولّى مهمة تسويق كتابهِ، وإقامة أمسيات التوقيع على حسابه الخاص، وتوزيعه على المؤسسات الثقافية والمكتبات العامّة والقرطاسية، وأحيانًا الجامعية وكلّ ذلك على حساب وقته وجهده.
وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا يطبع أيضًا كلّما نوى السفر خارج بلده، عدّة نسخ لأحد دواوينه، لا تتجاوز العشرين نسخةً، ليهديها لأصدقائه الذين يودُّ لقاءهم في البلد المضيف، بعدما نفدت نسخ طبعات ديوانه الكثيرة من السوق. وروى لي كاتب معروف أيضًا أنه يتعامل مع دار نشر خاصّة تطبع له عددًا محدودًا جدًا من كتبه الشعرية والنثرية، لا يتجاوز في أحسن الأحوال مئتي نسخة، بينما يقوم هو باستلامها من المطبعة وتوزيعها على أصدقائه القليلين، ونادرًا ما تحظى بأمسية توقيع أو بندوة بحث أو بـ "أصبوحة" شعرية أو بالتفاتة عابرة في صحيفة أو موقع إلكتروني.
يذكّرني هذا الشيء بالذي كان يجري في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي دول الاتحاد السوفييتي السابق، وبعد انهياره تحديدًا، حينما كان الكاتب أو الشاعر يطبع على نفقته عددًا محدودًا جداً من كتابه، لأسباب كثيرة منها الفاقة وكساد سوق القراءة، وانكسار روح الأمل وسطوة المادة وتوّغلها في الإنسان.