نهاية الحضارة
نهاية الحضارة
د.أحمد محمد كنعان
لقد كان هاجس الحضارة ومايزال يشغل بال الأمم منذ فجر التاريخ ، ويخبرنا علم الحضارات أن "حالة الحضارة" تتشكل من تضافر ثلاثة عوامل لا تقوم الحضارة في غياب واحد منها ، فالحضارة تتطلب أولاً أفكاراً خلاقة قادرة على تحقيق حالة الحضارة المنشودة ، وتتطلب الحضارة ثانياً توفير الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأفكار الخلاقة على أرض الواقع ، وتتطلب الحضارة ثالثاً الإنسان الذي يؤمن بتلك الأفكار ويحسن استخدام الوسائل الكفيلة بتنفيذها ، فعندئذ يمكن أن تحقق الأمة حضارتها المنشودة .
والحضارة حالة شاملة تعم الأمة ومختلف أنشطتها ، فإذا ما رأيت أمة تعيش حالة حضارة رأيت فيها كل شيء في حالة نمو وتطور ونشاط ، فترى فيها الفن والأدب والسياسة وكل مفردات الحضارة في ازدهار وتألق ونماء ، أما في غياب حالة الحضارة فإنك لا يمكن مثلاً أن تجد أدباً راقياً إلى جانب فن هابط ، بل تجد الأدب والفن وسائر الأنشطة الثقافية في حالة مزرية من الإسفاف والسطحية والتردي ، وكذلك بقية الأنشطة السياسية والاجتماعية التي تراها تتخبط يميناً وشمالاً على غير هدى !
والتفوق الحضاري ليس حكراً على أمة من أمم الأرض دون غيرها كما زعمت بعض النظريات العنصرية ، كالنازية والفاشية والصهيونية ، وكما يزعم اليوم دعاة الغرب الذين يعتقدون أن تاريخ الحضارة انتهى عند نموذجهم اللبرالي ، فقد قضت حكمة الخالق عزَّ وجلَّ أن لا تستأثر أمة من أمم الأرض بمشعل الحضارة طوال الوقت ، وهذا ما نشاهده عبر التاريخ البشري كله ، فقد تناوب على حمل المشعل حتى اليوم أمم كثيرة عبر القارات المختلفة ، وهكذا هي سنة الله في خلقه ، فليس لأمة من أمم الأرض مهما أوتيت من جبروت سياسي أو تقدم علمي أو قوة مادية أن تبقى في القمة حتى آخر الزمان ، بل لكل حضارة زمن ما ، ثم تمضي وتطويها سجلات التاريخ ، وقد تكون نهايتها صامتة فتغيب عن مسرح التاريخ بهدوء ، وقد تكون نهايتها مزلزلة بعذاب بئيس ، كما ورد في الذكر الحكيم (( وإنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلا نحنُ مُهْلكوها قَبْلَ يَوْمَ القِيامَةِ أو مُعَذِّبوها عَذاباً شَديداً ، كانَ ذلكَ في الكتابِ مَسْطوراً )) سورة الإسراء 58 .
والحضارة كذلك ليست حكراً على المؤمنين دون الكافرين كما يخيل لبعض الأمم التي تحسب نفسها ( شَعْبُ اللهِ المُخْتار ) أو الذين يزعمون أنهم ( أولياءُ اللهِ وأحِبَّاؤُهُ ) فالحالة الحضارية بمعناها المادي قد تقوم على قيم إيمانية وأسس أخلاقية ، وقد تقوم على قيم وأسس غير هذه ، وقد حملت مشعل الحضارة عبر التاريخ أمم مؤمنة تارة ، وحملته أمم كافرة تارة أخرى ، مما يوحي بأن الخالق العظيم سبحانه أراد للحضارة أن تنمو في خط صاعد عبر التاريخ ، سواء كان ذلك على أيدي المؤمنين أو الكافرين .. والعاقبة آخر المطاف للمتقين .
ومن سنن الله في الحضارة أن يقضى عليها حين يعتقد أهلها أنهم بلغوا القمة ، وحين تدور برؤوسهم خمرة التفرد والجبروت ، فيصرخون في نشوة : مَنْ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ فإذا ما ظنت أمة من الأمم أنها بلغت هذا الحد من الجبروت ، وأنها وصلت أوج مجدها ، وأنها ملكت زمام الأمور ، أتاها أمرُ الله عز وجل فنحَّاها عن دفة القيادة كما فعل بكثير من الأمم من قبل ، وهذه سنة إلهية لا رادَّ لأمرها ، نجد شواهدها في صفحات التاريخ ، وفي أطلال الحضارات البائدة المترامية هنا وهناك في أرجاء الأرض ، ولعل أنصع مثال على هذه النهاية الكارثية ما حدث لمدينة "إرَمَ ذَات العمَاد التي لَمْ يُخْلَقْ مثْلُها في البلاد" التي رواها القرآن الكريم ، فقد بلغت تلك المدينة العامرة درجة من الكمال والعظمة والجبروت غير مسبوقة في التاريخ ، حتى هتف أهلها في نشوة : من أشدُّ منَّا قوة ؟ فكان ذلك إيذاناً بخرابها ، وتلك هي نهاية كل حضارة تعتقد أن التاريخ قد انتهى عند أعتابها !