من إشكاليات الإبداع

أحمد محمد كنعان

لعل من أغرب الظواهر في تاريخ الإبداع أن معظم الإنجازات العظيمة التي شهدها التاريخ إنما تحققت بفضل بعض الأفكار الإبداعية المخالفة لما هو سائد أو مألوف أو متعارف عليه بين الناس !

وأغرب من هذا أن الناس للوهلة الأولى يواجهون الأفكار الإبداعية بالرفض والاستنكار ويحاربونها بلا هوادة ، ثم يكتشفون بعد حين أنها كانت عين الحكمة ، ولعل أكبر شاهد على هذه الظاهرة في التاريخ موقف المجتمعات البشرية قاطبة من الرسالات السماوية ، فقد ووجهت هذه الرسالات بالرفض التام أول الأمر ، بل إن بعض الأنبياء قتلوا على أيدي أقوامهم ، إلا أن الناس بعد حين أدركوا قيمة هذه الرسالات فراحوا يدخلون في دين الله أفواجاً !

وكذلك هي بعض الأفكار العلمية التي بدت أول الأمر صادمة للعقل البشري ، مثل الفكرة التي طرحها بعض علماء الفلك في العصور الوسطى بأن الأرض ليست مركز الكون ، وأنها هي التي تدور حول الشمس وليس العكس ، وقد وجدت هذه الفكرة معارضة شديدة يوم عرضت لأول مرة ، بل إن بعض العلماء الذين قالوا بها حكم عليهم بالإعدام ، وأحرقوا وهم أحياء ، ثم بعد حين ثبت أن الفكرة صحيحة لا ريب فيها ، وأنها كانت فتحاً عظيماً مهد الطريق فيما بعد لارتياد الفضاء وسكنى الكواكب الأخرى !

وفي هذا درس بليغ يعلمنا أن نحاور الأفكار الجديدة بهدوء ، وعقل مفتوح ، مهما بدت لنا هذه الأفكار شاذة أو غريبة أو غير معقولة أو مخالفة للمسلَّمات التي نؤمن بها ، فقد يكون في هذه الأفكار تصحيح لبعض أفكارنا الخاطئة ، وقد يكون فيها الحل الأمثل لكثير من معضلاتنا .

ومن غرائب التاريخ كذلك إن نسبة غير قليلة من "العباقرة" الذين أدهشوا العالم بإبداعاتهم جاؤوا من خارج الحقل الذي تخصصوا فيه أصلاً ، وتلك مفارقة تبدو للوهلة الأولى في غاية الغرابة ، ولاسيما في عصرنا الراهن ، عصر العلم والتخصصات الدقيقة ، لكن العجيب أن هذه المفارقة تشكل ظاهرة شائعة في تاريخ العبقرية والإبداع ، وعلى سبيل المثال فإن أكثر الأدباء الذين أحرزوا شهرة واسعة في دنيا الأدب ونالوا جوائز عالمية لم يتخرجوا من كليات الآداب ، وكذلك كثير من العلماء الذين حققوا اكتشافات عظيمة أو إنجازات كبيرة لم يتخرجوا من كليات علمية ، أو أنهم أبدعوا إبداعات لا علاقة لها بالكليات التي تخرجوا منها ، ونذكر على سبيل المثال أن الأديب الروسي "فيودور ديستويفسكي" كان رجلاً عسكرياً ، والأديب الروسي "أنطون تشيخوف" كان طبيباً ، والأديب العربي "توفيق الحكيم" كان قانونياً ، وعالم الفلك الأمريكي "أدوين هابل" كان محامياً .. وأمثال هؤلاء كثيرون في تاريخ العبقرية والإبداع .

أضف إلى هذا أن كثيراً من المبدعين العظماء الذين تركوا بصمة لا تنمحي في التاريخ البشري لم ينالوا تعليماً عالياً ، بل إن بعضهم لم ينتسب إلى المدرسة قط ، وبالرغم من هذا فقد أحرزوا مواقع متقدمة في سجلات التاريخ ، ومن هؤلاء مثلاً العالم الأمريكي "توماس أديسون" الذي طرده مدير المدرسة لأنه كان طالباً بليداً ، لكن أديسون أنجز بعد ذلك ما يزيد عن ألف اختراع من الاختراعات العظيمة التي منها المصباح الكهربائي الذي أضاء العالم ، ومن هؤلاء العباقرة كذلك الأديب العربي "عباس محمود العقاد" الذي اكتفى بشهادة الدراسة الابتدائية ومع هذا فقد وصل إلى درجة في الأدب بحيث أصبح يشرف على رسائل الدكتوراه في الجامعات دون أن يحمل هو شهادة جامعية .. وفي هذا درس عظيم لمن لم تسمح له ظروفه أن ينال حظاً من التعليم العالي ، وبخاصة في هذا العصر الذي أصبحت فيه مصادر المعرفة متوافرة بسهولة من خلال القنوات الفضائية ووسائل الاتصال وشبكات الإنترنت والكومبيوتر وغيرها من المصادر التي يمكن الاستفادة منها في تحصيل أعلى درجات العلم والمعرفة .

ومن غرائب الإبداع كذلك أن نسبة غير قليلة من مشاهير المبدعين سجلت أسماؤهم في البداية في أسوأ صفحات التاريخ للاعتقاد بفساد أفكارهم ، أو ضلالهم ، أو سوء أعمالهم ، لكننا بعد حين نفاجأ بنقل هؤلاء المبدعين إلى "سجلات الشرف" حين يدرك الناس أن هؤلاء المشاهير كانوا على حق ، وأنهم قدموا للبشرية خدمات لا تنكر ، والأمثلة على هذا كثيرة ، فكم من عالم أو فيلسوف أو داعية أو زعيم تعرض للمحاكمة والسجن والإهانة والتشهير وربما الإعدام ، ثم بعد فترة يكتشف الناس أنهم أخطؤوا في حقه ، فنراهم ينفضون الغبار عن سجله ، ويخرجونه إلى النور ، ويرفعونه إلى أعلى درجات التقدير ، ومن هؤلاء مثلاً فيلسوفنا الجليل "ابن رشد" الذي حوكم وأهين وأحرقت كتبه ومُنع الناس من تداولها ونفي إلى قرية نائية ليموت هناك وحيداً محبطاً ، ثم اكتشف الناس بعد حين أنه كان حجة في الفلسفة والفقه والطب ، فأعادوا له اعتباره ورفعوا شأنه ووضعوا اسمه في سجل الخالدين ، وأمثاله كثير في التاريخ !

وكم بالمقابل من مبدعين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس ردحاً طويلاً من الزمان ، وتصدرت أخبارهم وسائل الإعلام ، وانتشرت صورهم البراقة وتماثيلهم العملاقة في كل مكان ، وأطلقت أسماؤهم على الشوارع والميادين والساحات والمدارس والجامعات ، وبعد حين يكتشف الناس سوء أفعالهم وما جنته أيديهم أو أفكارهم من جرائم أو خيانات أو فساد ، فتنقلب صورتهم في أعين الناس رأساً على عقب ، وتنطلق الجماهير ـ التي كانت بالأمس تصفق لهم ـ تمزق صورهم ، وتسقط أنصابهم وتحطمها وتدوسها بالأقدام ، وتحرق كل ما له علاقة بهم من قريب أو بعيد .. وتلك لعمري من أعجب صور التاريخ .. فتأمل !