بين المنهجية الثورية وادعائها

الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين

سجن جلبوع المركزي

إن القوة المحركة للثورة تتمثل بحاجة الإنسان الأساسية للحرية، وتشتمل على مقومات ودوافع أخرى عديدة، ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بطموحات الأفراد المنخرطين في صفوفها، سواء أكانت هذه الطموحات شخصية أو عامة.

كما أن علاقة الثائر بالثورة، هي التي تكسب العمل الثوري إتساعاً ونجاحاً خاصين، عندما تكون التفاعلات والإنفعالات بين طرفي المعادلة الثورية قائمة على قواعد الإحترام، والثقة، والمحاسبة، والانصاف، والوفاء، والتضحية، وحماية الحقوق والواجبات في إطار الإنتماء المحصن أخلاقياً ووطنياً، وليس الوظيفة المهنية.

كل ذلك سيؤدي حتماً إلى إنتشار جذوة الثورة في مختلف القطاعات الجماهيرية، بما تحتويه من إنعكاسات إقليمية ودولية، والعكس من هذا النمط سيقود إلى إنحسار الثورة وتقهقرها.

وبالاستناد إلى هذا الفهم البسيط لطبيعة الحركة الثورية، يمكننا التمييز بسهولة بواسطة السمات التي يتمتع بها الأفراد (النشطاء) –بغض النظر عن مواقعهم الإعتبارية- إذا ما كانوا ثوريين حقيقيين، أم موظفين ماديين، وبالتالي يسهل علينا التنبؤ بالمصير الذي ستؤل إليه الجماعة الثورية أو تلك.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن أولى الآفات التي تبدأ بنهش الجسم الثوري من الداخل، تنشأ جراء انتهاج سياسة الولاءات والحظوة لدى صناع القرار، واعتمادهم على مقلدي الثوار، ونبذهم أو محاصرتهم للثوريين الموهوبين خشية النقد الجريئ أو المنافسة الشريفة؛ في ظل غياب القانون التنظيمي الذي يؤطر لسنوات علائقية سليمة.

إن الإعتماد على أساليب هابطة، وأدوات رديئة في سياق مسارات حركات التحرر الوطني أو الاجتماعي، فينجم عنه انكشاف نقاط ضعف وعورات هذه الحركات أمام أقل هزة جدية تتعرض لها، وتعاني من الهزيمة والخسارة السياسية في أول منافسة تواجهها على الصعيد الوطني!.  الصدمة التي تنقلها من حالة الدفاع عن الشعب، والمناداة بحقوقه، إلى حالة الدفاع عن نفسها حتى ولو كان ذلك على حساب الشعب نفسه.

فإذا كانت النهاية المؤلمة معلومة لدينا منذ البداية، فلماذا نسلكه؟! باختصار لأننا لازلنا أسرى ثقافة الزعيم الأوحد، فلا زعيم إلا الزعيم، وهذه ثقافة –مع الأسف- مستفحلة في الغالبية العظمى من المؤسسات المنبثقة عن الجسم المركزي، ناهيك عن أنها نتاج عقلية عشائرية قبلية لازالت تتحكم في بنية الحزب السياسي العربي، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، لازلنا نعاني من ارتباط معيار النجاح والفشل بالعمر الزمني للزعيم، وليس بالعمر الثوري للأجيال المتعاقبة.  وبالتالي علينا أن نعيد تجديد تحركنا كجلد الأفعى مع بداية مرحلة كل زعيم جديد، غير آبهين لاستثمار قانون التراكم الثوري، لأن كل زعيم جديد وعلى خلاف ما يصرح به، يسعى لشق مساره الجديد الذي ينسلخ به عن إرث سلفه، حتى يحقق ذاته، ويثبت شخصيته المختلفة، وعليه سنطر العودة مرة أخرى لنقطة البداية، أو نقطة قريبة منها في أحسن الأحوال مما يطيل من عمر الاحتلال أو الإضطهاد ويزيد من المعاناة الانسانية والاجتماعية لشعوبنا.

إلى جانب هذه الأزمات الكامنة في أحشاء الحركات الثورية نفسها، سيتطور المرض إذا لم يتم علاجه واستئصاله، وسيتحور خارج الجسم الحامل له، ليزجنا في إشكالية الإشكاليات التي تجعل من البيئة والمناخ العام الذي تعيش فيه حركات التحرر، بيئة ومناخاً غير صالحين لانتعاش الثورة وانتصارها في تحقيق أهدافها، وهذا الأمر يتجلى واضحاً من خلال سيطرة المناخ الفئوي على البيئة التي تشهد حراكاً ثورياً، بحيث تعلو قيمة ومصالح الفصيل السياسي، فوق قيمة ومصالح الوطن والشعب وقضاياهم العادلة والمشروعة، فعندما تنقلب المفاهيم ويصبح الفصيل هو الهدف المرجو، فالقضية الوطنية هي الوسيلة لدعمه وتعزيز وجوده، يصبح من الصعب تحقيق حتى أبسط الأهداف الثورية، وإن حدث تغيير ما، فسينحصر هذا التغيير بالشكل ولم يمس الجوهر إطلاقاً، بمعنى آخر، سنستبدل نظام حكم بنظام آخر، أكثر سوءاً أو أقل قليلاً من النظام الذي سبقه.

وحتى لا أسترسل كثيراً في هذا التشخيص الذي قصدت به حركات التحرر الوطنية والاجتماعية على حد سواء، فإنني أدعو كل المثقفين والمفكرين العرب إلى النزول من أبراجهم العاجية، والتفاعل مع الشارع العربي بشكل مباشر، والعمل الجاد والدؤوب على إعادة سقل وعيه الجمعي بما ينسجم ومتطلبات الحداثة في المساهمة ببناء الحزب السياسي القادر على التعبير عن طموحات ورغبات الجماهير العريضة، بعيداً عن الجمود العقائدي والأيدلوجي الذي يعيق من تقدم أمتنا، وإلا فإننا سنواصل الإنحدار نحو الهاوية، وستفقد أمتنا مقوماتها البشرية، وثرواتها المادية في صراعات أهلية، وطائفية، وسياسية لا نهاية لها، وما يدور اليوم على الأرض من صراعات دامية على الحكم في العراق، واليمن، وليبيا، وسوريا، وأفغانستان، والباكستان، والصومال، واثيوبيا، والتي من المرشح أن تنتقل في تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية والاسلامية، حيث لا يوجد دولة واحدة محصنة بالديمقراطية الحقيقية، والثقافة الحزبية، التي يتم فيها تداول السلطة بطرق سلمية على اساس من التعددية السياسية، ولازالت تفتقر للحزب أو النظام السياسي المبني على أن الوطن أهم بكثير من ضعف وتراجع قوة هذا النظام أو الحزب التي يجب أن لا تعزز خارج نطاق الوسائل المشروعة، أقول قولي هذا وأنا أستحضر في ذهني التجربة الفلسطينية المريرة التي لازلنا نعاني من ويلاتها حتى الآن.