الاستقلال كلمة لها معنى

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

كأنه مكتوب علينا في القرن الحادي والعشرين أن نعرّف المُعرف ونفسّر المفسّر ونشرح المشروح . ومن بين ما يجب أن نستعيد تعريفه وتفسيره وشرحه مفهوم الاستقلال الوطني ، بعد أن اكتشفنا أن رحيل الاحتلال الأجنبي ليس كافيا لنستمتع باستقلالنا ، وأن سحب الجيوش الغازية ليس دليلا على أننا نملك إرادتنا ومصائرنا .. فقد عرفنا بعد ستين عاما من خروج الإنجليز الحمر ، أنهم تركوا نوعا آخر من الإنجليز، هم الإنجليز السمر يواصلون مهمة أسلافهم بصورة أكثر وحشية واستبدادا وتخلفا . يستوي في ذلك  أغلب دول المشرق العربي والمغرب العربي ، وظل الحال كذلك حتى جاء الربيع العربي ، أو اليقظة العربية كما سماها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر .

الاستقلال حين يكون له معنى كما يقول ناحوم تشومسكي ، يشير إلى مفهوم السيادة الكاملة للمواطن على أرض بلاده والمشاركة في تقرير مصيرها ، وصناعة غدها ومستقبلها ،واستمتاعه بحريته ، وعدم رضوخه للضغط الأجنبي . ولكن الحال في بلادنا العربية أن المجموعات التي أوكل إليها أمر البلاد والعباد تجاهلت المواطنين ودورهم وخبراتهم وقدراتهم ، واكتفت بما يمكن تسميته إرضاء السيد الأجنبي ،   وما بالك بأوطان يقوم قادتها بالتعذيب واستنطاق المتهمين لحساب السيد الأجنبي ، والتفريط في الهوية والشخصية القومية والسماح بالتدخل في شئون التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد والاستثمار والصناعة والزراعة ؟ 

لماذا تميز الغزاة الصهاينة عن أهل البلاد العرب مع أن تجربتهم قامت على العدوان والبدء من الصفر ؟ لأنهم استطاعوا أن يملكوا قرارهم بيدهم ، وأن يبحثوا عن مصالحهم أينما كانت ، ولم يجعلوا العواطف والمشاعر بديلا عن العمل والتنظيم والدأب والمشاركة العامة ، فضلا عن تمسكهم بهويتهم المدّعاة وخصوصيتهم المزعومة إلى الحد الذي يجاهرون فيه اليوم بوجودهم القائم على أساس دولة دينية يهودية ؛ مع أن كثيرا من مؤسسي كيانهم الغاصب كان ملحدا أو علمانيا مثل دافيد بن جوريون وليفي اشكول وجولدا مائير . الوحيد الذي كان متدينا من وجهة نظرهم كان مناحم بيجن  .. مَنْ مِن قادة الأمة كان يفاخر بإسلامه ويعتمد عليه ؟ لقد وصل الأمر ببعضهم إلى رفع الكئوس في معية السيد الأجنبي ليبدو حداثيا متحضرا وما هو من ذلك بشيء ! ناهيك عن ارتهان قراراتنا وإرادتنا بما يريده السيد الأجنبي أيا كان ، وأينما كان : في موسكو أو واشنطن أو تل أبيب !

 في حوار الأهرام  25/10/2012م ؛ مع الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يتحدث الرجل عن قوة الكيان الصهيوني عسكريا وأنه لا توجد دولة أخري يمكن أن تتحداه علي المستوي العسكري, ومن الناحية الدبلوماسية, فإن دور مصر مستقبلا كما يراه ؛ ينحصر في عملية السلام , ولكن هناك أيضا تغيّرا تمّ في العام المنصرم كما يقول , لأن الرئيس السابق مبارك , قام في الماضي بأي أمر أرادت القدس (؟) وواشنطن منه القيام به,  ثم يشير كارتر إلى اتفاقية السلام وأهميتها بالنسبة لمصر والعدو ، ويرى أن أيا منهما لا يود العودة إلي حالة الحرب.

في الحوار نكتشف النظرة الاستعلائية لمن كان يعده قادتنا في الماضي وربما في الحاضر السيد الأجنبي ، فهو يدشن في كلامه اعترافه بالقدس ؛ المدينة المقدسة في الإسلام ، عاصمة للغزاة ، ويؤكد على قوة العدو ، ويضع لرئيسنا المنتخب دورا محددا يتصل بالناحية السلمية ، أو ما يمكن تسميته بصراحة المزيد من الاستسلام والتنازلات بعد إبلاغنا عن تفرد العدو بالقوة التي لا تقهر ! لقد أنبأنا كارتر في حواره أن مواطني الشرق الأوسط – كما يسميه - يعظمون من القوة المؤثرة التي تملكها الولايات المتحدة في قرارات العدو وهو ما ينفيه ضمنا , حيث يرى أن أحدا  لا يملك أن يأتي لواشنطن ويخبر الرئيس أوباما ماذا يفعل ؟

الكلام الخبيث ينفي مسئولية أميركا والعدو المتحالفين استراتيجيا ، ويتنصل من القدرة على التأثير على كيان  يعتمد اعتمادا أساسيا - وفقا للغة المصالح -  على كل شيء قادم من واشنطن بدءا من السلاح حتى قطعة الزبد . ومعنى ذلك من و جهة نظره أن علينا نحن العرب والمصريين أن نستسلم ونقدم المزيد من التنازلات وفي مقدمتها القدس لو أردنا أن نعيش في أمان ! 

السيد كارتر لم يخف الإرادة الغلابة للسيد الأجنبي في عدم السماح لأية قوة غير الكيان الصهيوني الغاصب بالتفوق العسكري ، ورأى أن المسموح به أن تصعد الدول الأخرى ومنها مصر لتكون قوية عسكريا  بصورة كافية لحماية نفسها فقط , ولا يتورع كارتر عن الدعوة إلى وجود حكومة علمانية, لتعود الاستثمارات والسياحة إلى مصر المستقرة !

المفارقة أن مفكرا أميركيا حرا مثل ناحوم تشومسكي أعلن في محاضرة قيمة ألقاها بالجامعة الأميركية في القاهرة مؤخرا 23/10 2012، أن واشنطن تخشى قيام ديمقراطية حقيقية بمنطقة الربيع العربي.. وأن الغرب أنقذ ديكتاتوريات عربية من لهيب الثورة ، وأشار في محاضرته إلى أن الأمر الأخطر بالنسبة للولايات المتحدة سيكون هو التحركات تجاه استقلالية القرار في منطقة الشرق الأوسط.  وأن هناك خطرا آخر في منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة يتمثل في احتمال أن تتحرك المنطقة صوب استقلالية لها معنى ، وقال إن هذا يمثل تهديدا خطيرا لها.

إذا كل ما تتحدث عنه أميركا في إعلامها وعبر مسئوليها ومبعوثيها عن الحرية والديمقراطية وحق الشعوب في الاختيار والتعبير والتوجه هو خرافات خادعة لإقناع السذج والبسطاء ، وكسب الوقت لتحقيق مصالح إستراتيجية تتمثل بالدرجة الأولى في السيطرة على الطاقة وفي مقدمتها النفط ، وعلى الأسواق وفي مقدمته أسواق شعوبنا المستباحة ، مع صناعة الطغاة وتنصيبهم أوصياء على أمتنا ، وإخضاعهم للإرادة الصهيونية في فلسطين المحتلة ،وما موقف الولايات المتحدة من فوز حماس في الضفة والقطاع بالانتخابات التشريعية عام 2006 إلا المثال الصارخ على خداع الولايات المتحدة وإجرامها ضد حرية الشعوب وإرادتها .

أن تكون ديمقراطيا يجب أن تدفع الثمن ، وأن تكون مستقلا يجب أن تتوقع انقلابا عسكريا أو شبه عسكري ، وهو ما يتوقعه تشومسكي بالنسبة لمصر الثورة للأسف الشديد ، فهل يصدق توقعه وسط إصرار اليسار والليبراليين على إسقاط الرئيس والدولة ؟