هل سنحبك يومًا أمريكا؟
جواد بولس
لم تحظَ الانتخابات الأمريكية، وخاصة خطاب الرئيس باراك أوباما بعد فوزه، لقدر مناسب من الاهتمام في العالم العربي. ولم تتعدَّ تلك المناسبة، عند القلة التي تابعت واستمعت لخطبة الفوز، كونها حدثًا عابرًا لم يستوقف محللين أو قادة أو منظرين في السياسة وعلم الكلام، الذي هو فن الثرثرة في مفاهيم هذا الزمن الرديء.
القضية أكبر من إغفال خطبة؛ فمن تتبع الإعلام العربي بشكل عام وإعلامنا المحلي بشكل خاص، يصعق من غياب أية "شهوة" لفهم ما يجري في بلد "الشيطان الأكبر". بعض العناوين أبرقت ببضع كلمات واكتفت بإخبار قرّائها بأن باراك أوباما أعيد انتخابه لولاية ثانية وكأنّنا نقرأ عن انتخاب رئيس للجنة أولياء أمور الطلاب في مدرسة ابتدائية في قريتنا.
مشهد آخر يعكس ذلك العري الثقافي بين العرب، ويعكس كذلك مقدارًا كبيرًا من العدمية والجهل الذي سيُبقي قادة دول عربية وإسلامية كثيرة في ردهات الكومبارس والمستجيرين بنار أمريكا الأرحم عليهم من رمضاء شعوبهم. أمريكا تنتخب حزبًا ورئيسًا ليحكمها وليحكم العالم معها لمدة أربعة أعوام مقبلة. العالم يتابع، يقرأ، يحلل، يتمنى، يتوقع، يستبعد، يخشى، يصفق أو يبكي والعرب غرقى في بحر من الروايات حول عدد العمليات التجميلية التي أجرتها "هيفاء"، أكانت سبعًا أم وصلت سبعين؟
سباق الانتخابات الامريكية أشغل العالم وشدّ لحلباته دولًا وقارات وعندنا في الشرق تمزّقت أعصاب شيوخنا/أمرائنا واتٌجهت عيون الأمة صوب ميادين الفروسية وسباقات الهجن. لا شأن لزيد "بباراك"، فزيد يدعو لأميره المفدى ويصلي لفوز "العنود" ولا شأن لعمرو "برومني" فعمرو يتحرّق، يبكي ويتضرّع لتنتصر "مرجانة"، ناقة أميره، خادم الصحراء وسيّد الفحولة.
أعترف بأنّني سمعت خطاب النصر بعيون كاملة. أصغيت لقائد تنساب كلماته بحرارة الحزن وصدقه. صدمني ذلك الرجل الذي وقف هناك كظل ليل. بساطته تمكّنت من هشاشة يأسي الشرقي فانتزع من حدقاتي بضع قطرات من حلم. خفت أن يجف فحرصت على إخفائه من ضربة عين وممن "يخزّنون" الوطن فيصبحون على هزيمة.
سمعت الخطبة أكثر من مرة. فتنتني ما قالته أمريكا. للرب فيها مكانة سامية وللديانات اعتبار. ويبقى الإنسان قيمة أولى وكلمة، موقفًا وصوتًا/سوطًا، حقًا وتحقيق ذات. رجل وامرأة وأقدار لا تستوي ولا تزهر إلّا بأنفاسهما تمتطي الغيم معًا وتنسكب وسمًا وغيثا؛ "فعنتر" يحب "عبلة"، يجاهر بوجع قلبه ويشكرها على مرأى ومسمع عالم بأسره فهي الشريكة، صانعة العزة ومناصفة الكرامة. بدونها لا يصمد خباء ولا يرتفع بنيان. أصغيت بدقة لصوت أمريكا القوية، لا لأن جيشها قويّ وحسب، ولا لأن جامعاتها متطورة وحسب بل هي قوية بشعبها بحلمها وإيمانها بمستقبل أفضل وثقتها بأن الأمريكي أخ للأمريكي. "نصعد ونهبط كشعب واحد" أكّد ذاك البرق الأسود فهتفت له الحناجر وبكت عيون ففي أمريكا مكان للحلم وهناك فسحة للأمل وفي أمريكا "باراك" هو ابن "حسين" وكأني بشخصه "تآخينا هلالا وصليبا". في أمريكا ذكر وأنثى سواسية في الحب والعطش وفيها بشر ينتخب بشرًا ليكون على رأس نظام من المؤسسات لمدة أقصاها ثمانية أعوام متتالية. في أمريكا للإنسان كرامة وكيان.
أعترف أنني أصغيت وشاهدت ذلك الخطاب واعترف أنني بكيت. بكيت وأعرف ان الرائج بيننا في الشرق موقف يقضي باعتبار أمريكا كلًا واحدًا لا تتجزأ وهي، عدوة الأمة وشيطان كريه. لا فرق من سيحكمها، ففي النهاية سيمسي هذا الأب الحاني على إسرائيل وهذه ستبقى كما كانت، الابنة المدللة، والعرب هم الخاسرون وفلسطين هي الضحية.
لماذا تكرهنا أمريكا؟ وهل ستظل عدوّتنا؟ ألعرب لا يحبون أمريكا لأنّها تقف في صف عدوهم. العرب لا يبكون على أمريكا بل منها فحلم أوباما عندهم قد يصير كابوسًا كما كانت أحلام من سبقوه من رؤساء في الماضي القريب. لماذا يتحالف ذلك الحالم العاشق المتسامح الواعد مع جلادين يزهقون أرواح شعوبهم ويقمعون أحلامها؟ يقولون لا فرق بين ديمقراطي أو جمهوري فكلهم، في النهاية، سفٌاح ودجّال وزنديق أبناء نظام خسيس من الكفرة الفاسقين الطامعين. أحقًا هذا صحيح؟ ما رأي ذوي العلم وأصحاب الدراية والعقل؟ يقولون هي المصالح تقرٌب شياطين وتفرّق بين ملائكة! أحقًا هكذا تورد الأبل يا قوم؟ مصالح من مع من ومن هم الشياطين وأين الملائكة تكون؟ يقولون هو الدين، فمهاويس مسيحيون تحالفوا مع مهاويس يهود واستعدوا مسلمين بررة وأبرياء، أحقًا هذه هي الصلاة وحكم السماء والغيم؟
صفّق الملايين من البسطاء الأمريكيين والمراقبون قالوا هي أمريكا المختلفة الملوّنة الكادحة المنفتحة اختارت مستقبلًا وكان ابن إفريقيا وابن حسين. هي أمريكا الوعد تبعد سلطان الأبيض الناقم النهم المتغطرس "البوشي" الأحمق الباطش لتبقي لأبنائها فسحة من أمل وبسمة مع حلم ولنا تبقي حرقة الدمع والتساؤل: متى يا أمريكا سنحبٌك؟ كيف لا نكرهك؟ لقد أصغيت لكلام ذلك الأسود الحالم يغني لعبلاه وتوجّعت. بكيت من فرحي أو ربما من خوفي فالقصة بكلمتين: أمريكا الشر تختار رئيسها، وما دخلنا نحن العرب؟