الأعاصير والتاريخ
عن إيلاف
سيظل إعصار «ساندي» الذي اكتسح الساحل الشمالي الشرقي لأميركا الشمالية بين الكوارث الطبيعية التي ستحظى بصفحات عدة في كتاب التاريخ العالمي.
وآثار ساندي لا تقتصر على الخسائر المادية (والبشرية) الهائلة التي تتراوح حسب التقديرات الأولية الحالية بين 50 و100 مليار دولار. فهناك، وقبل كل شيء آخر، أثرها الواضح الآن على المسار السياسي للولايات المتحدة، لأنها تأتي قبل أسبوع واحد من موعد انتخاباتها الرئاسية المهمة على نطاق الدنيا.
فكان من نتائجها تأجيل الاقتراع المبكر في عدد من الولايات. وبلا شك فإن الأنظار تنصب حاليًا على الكيفية التي يتعامل بها الرئيس باراك أوباما (ومنافسه الجمهوري ميت رومني) مع هذه الكارثة القومية. من هذا المنطلق يمكن القول إن إعصار ساندي قد يصبح صاحب القول الفصل في مَن يمسك بمفاتيح البيت الأبيض خلال السنوات الأربع المقبلة.
في حال حدث ذلك فعلاً، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تغيّر فيها العواصف والأعاصير أحوال الدنيا. ووفقا لتقرير مطوّل خرجت به مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، فثمة ستة من هذه غيرت مسار التاريخ في العالم، وفي بعض الأحيان بين عشية وضحاها.
رياح إلهية
ربما امتدت الامبراطورية المغولية لتشمل ربع البشرية في قت ما. ولكن حتى قوتها الخارقة تلك أخفقت مرتين (في 1274 و1281) في إخضاع اليابان لسطوتها. ولم يكن هذا لأن اليابان كانت حصنًا منيعًا أمامها، وإنما لأن المغول أنفسهم وجدوا أنهم بلا حول أمام قوة الطبيعة. ففي كل من هاتين المرتين تشتت أساطيلهم بفعل عواصف البحر الهائلة التي أغرقت سفنها وابتلعت مقاتليها الأشاوس.
لهذا سمّى اليابانيون هذه العواصف «كاميكازي» أو «الرياح الإلهية»، التي أثارها الإله رايجين، ليدمّر بها القوات الغازية، ويحمي الجزر اليابانية تبعًا لأساطير أهل البلاد.
وبعد نحو 660 عامًا، اكتسبت كلمة «كاميكازي» تلك معنى جديدًا في اليابان هو «الهجوم الانتحاري» (تشبيها لمحاولات المغول غزو بلادهم بـ«الانتحار») عندما ابتدعت هي نفسها الهجمات الانتحارية على أعدائها خلال الحرب العالمية الثانية، وصارت من وقتها تعرف بهذا الاسم.
«الأرمادا» ضد البحر
في 1588 توجّهت 130 سفينة تؤلف أسطول «الأرمادا» الإسباني، الذي كان أعتى قوة بحرية في العالم وقتها، لتحيل القنال الانكليزي (المانش) ساحة للحرب. لكن سلسلة من العواصف البحرية أجبرتها على الرجوع الى لشبونة.
هكذا صارت الحرب خاسرة، لأن عودة الأرمادا بعد شهرين، أتاح للانكليز توحيد أسطوليهما للدفاع عن القنال ومواجهة الإسبان بمدفعية قاتلة. وعندما بدأ هؤلاء الأخيرون مشوار العودة الخائبة تعرّضت سفنهم الباقية لإعصار دمّر معظمها، فكانت خسائره أكبر من تلك التي أحدثتها مدافع الانكليز.
البرَد الذي قتل أخاكم لوي السادس عشر
لم تكن فخامة قصر فيرساي وسط فقر الشعب هي السبب الوحيد لاندلاع الثورة الفرنسية العام 1789، إذ كانت هناك الأحوال الجوية أيضًا. فبدءًا من 1785 أصاب البلاد ضعف واضح في المحاصيل، يقال إن سببه بركان في آيسلندا، تسبب بدوره في تغيير الأنماط المناخية المعتادة.
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير، على الأرجح، تمثلت في عاصفة من البرَد هبت على باريس في 1788 ودمّرت حقولاً قطرها 240 كيلومترًا حول المدينة. فصارت أسعار الغلال فوق متناول العامة، بينما كان أهل القصر يُتخمون بالـ«الغاتوه». وهكذا مُهّد الطريق الى إحدى أشهر الثورات في العالم.
عندما تأتي الرياح بالاستقلال
لم يكن «إعصار بهولا العظيم» في 1970 عظيمًا حقًا بمقاييس السوابق واللواحق التاريخية، وحتمًا فليس الأقوى الذي يضرب سواحل المحيط الهندي. لكن توقيته في دلتا نهر الغانج، التي تعجّ بالسكان في باكستان الشرقية، جعل منه صاحب الخسائر البشرية الأفدح في تاريخ البلاد. فقد دمّر هذا الإعصار ورياحه، التي هبّت بسرعة 185 كيلومترًا في الساعة، المحاصيل، ومسح قرى بكاملها من وجه الأرض، وقتل نحو نصف مليون شخص.
على أن هذا الإعصار أتى أيضًا في وقت كانت علاقة إسلام أباد بإقليمها الشرقي المهمل في غاية السوء. وزاد بلة الطين تلكؤ الحكومة المركزية في التحرك والإغاثة. فتفجّرت ثورة شعبية تحولت في 1971 إلى حرب أهلية. وقادت هذه في نهايتها إلى انفصال الإقليم وولادة دولة بنغلاديش المستقلة في العام نفسه.
كاترينا والملح اللاتيني
يحتل «إعصار كاترينا»، الذي دمّر نيو أورلينز، ولاية لويزيانا، في 29 أغسطس / آب 2005 مكانة لا جدال حولها في تاريخ الولايات المتحدة. فقد بلغت قيمة خسائره البشرية 1833 قتيلاً، والمادية أكثر من 108 مليارات دولار، ويعتبر في السجلات الرسمية أحد الأعاصير الخمسة الأكثر دمارًا في تاريخ البلاد.
حدث هذا بالرغم من تحذيرات الخبراء من هشاشة المدينة أمام الكوارث الطبيعية من هذا النوع، بسبب وقوعها في أراض منخفضة، وأيضًا بالرغم من أن الرئيس جورج دبليو بوش أعلن حالة الطوارئ قبل يومين من وصول «كاترينا» الفعلي إليها.
لكن تراخي عمليات الإنقاذ ومدى الخسائر في هذه المدينة، التي تقطنها شريحة هائلة من السود، أديا إلى أعمال شغب ونهب غير مسبوقين، ووصما رئاسة بوش بأقرب شيء إلى العار السياسي. وقال بوش نفسه في كتاب مذكراته إنه يعتبر وصفه وقتها بأنه لا يهتم بمواطنيه السود «أسوأ لحظة على الإطلاق خلال رئاستي».
ليس هذا وحسب، إذ صارت الإدارة الأميركية موضع سخرية وشماتة محليتين ودوليتين، بسبب إنفاقها مليارات الدولارات على أداء دور الشرطي في العالم (أفغانستان والعراق)، بينما هي عاجزة عن ترتيب بيتها من الداخل. ومما لا شك فيه أن كوبا وفنزويلا (تحت زعامة العدوّيْن فيدل كاسترو وهوغو شافيز على التوالي) رشتا الكثير من الملح على الجرح الأميركي، لأنهما كانتا في طليعة المتبرّعين بتقديم المساعدات إلى أهل المنطقة المنكوبة.
نرجس
في 2 مايو/أيار 2008 هبّ إعصار «نرجس» من مياه خليج البنغال الدافئة، وضرب أواسط بورما بيد من حديد ليحدث أسوأ خسائر من نوعها في تاريخ البلاد. ورغم أن سلطات البلاد العكسرية تكتمت - كما كان متوقعًا - على الحجم الحقيقي لهذه الخسائر، فإن تقديرات المراقبين تشير إلى مقتل ما لا يقلّ عن 140 ألف شخص.
كان هذا من ناحية الخسائر البشرية، التي يضاف إليها أن عددًا هائلاً من قرى البلاد وبلداتها الصغيرة ومزارعها دمّرت بكاملها. ولم تكتف الحكومة بعجزها عن الإنقاذ والإغاثة، بل رفضت لأربعة أيام متتالية أي شكل من مساعدات الأسرة الدولية، ولم تتقدم بطلب المساعدة إلى الأمم المتحدة إلا في السادس من الشهر.
وكان الغضب الدولي عارمًا، فوصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الموقف بأنه «كارثة من صنع الإنسان». ورغم أن ما حدث في بورما لم يعزز ساعد المعارضة بشكل مباشر، فقد أدى منظر الناس وهم أموات على أغصان الشجر ومظاهر المجاعة التي سادت لأسابيع بعد الإعصار إلى نزع القناع الذي ظلت حكومة العسكر تتخفى وراءه. وكان هذا بحد نفسه بشيرًا بأن هذه الحكومة تشهد بداية النهاية لحكمها الدكتاتوري الذي طالت عقوده.