التقويم الذاتي: إستراتيجية تربوية للحصول على نتائج أفضل

التقويم الذاتي:

إستراتيجية تربوية للحصول على نتائج أفضل

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

يحتاج الإنسان خلال عمله إلى من يرشده ويوجهه، ويقيّم أعماله ويقوّمها، ولذلك كان لا بد من وجود مراجعة لكل عمل نقوم به، سواء أراجعناه بأنفسنا، أم قام بهذه العملية آخرون، فكان لا بد من وجود عملية التقويم بمفهومها الشامل في كل مناحي حياتنا، وهي عملية لازمة وضرورية وتلقائية، وتفرض نفسها، وتستدعي أبجدياتها رضينا بذلك أم كرهناه!! ولعله من نافلة القول أن نقول: إن كل عمل لا يتبعه تقويم هو عمل لا يساعد على أن يكون حافزا مساعدا لتطوير الأداء وتحسين ظروف العمل، فبالتقويم وأدواته وشروطه الموضوعية ستكون أعمالنا وحياتنا بالتأكيد أفضل حالا ومآلاً.

وتتنوع في الحقل التربوي أشكال التقويم وأدواته، فمنها التقويم المباشر وغير المباشر، ومنها اللحظي وبعيد المدى، ومنها الذاتي وغير الذاتي، وفي هذا المقال أحاول أن أستجليَ مفهوم التقويم الذاتي وأهدافه، وأهميته لكل من يعمل في المجال التربوي من معلمين وإداريين وطلبة.

لعل أبسط مفهوم للتقويم الذاتي هو أن يقوم الشخص الذي أدى عملا ما بمراجعة ذاته بعد إنهاء ذلك العمل، ليرى مدى ما حققه من أهداف مرسومة سلفا، وما هي المخرجات والمنتجات التي خرج بها، وما هي الصعوبات التي واجهتْه، وكيف تغلب عليها؟ وما مدى تأثيرها في جودة العمل وإتقانه؟ وكيف يمكن أخيرا الاستفادة من هذه العملية ليكون العمل أنجح في المستقبل بمجهودات أقل، وإنجازات أكثر إتقانا وبصعوبات أقل؟ إذن هو عملية مراجعة ذاتية شاملة لكل جوانب العمل المؤدى، للحصول على التغذية الراجعة الضرورية لإنجازات أكثر إتقانا.

إن العاملين في الحقل التربوي من معلمين وإداريين يحتاجون لعملية التقويم الذاتي أكثر من غيرهم، نظرا لصعوبة العمل وتعدد أصربه، وتشابكه مع جهات متعددة، ونظرا للمعيقات التي تكتنف هذا العمل، والطوارئ التي تحدث يوميا، فتربك العاملين وتشوش التخطيط المسبق، فكان لزاما وقد أحاط بالعمل كل هذه المشتتات والعقبات أن يكون العاملون التربويون أكثر يقظة وحرصا على أن يخففوا من وقع تلك العوامل التي تشد الأعمال نحو العبث وتقضي على تحقق الأهداف، وما السبيل إلى ذلك إلا بعملية التقويم الذاتي المستمرة، والتي تواكب العمل المنجز بعد كل مرحلة من مراحله.

وتنبع أهمية التقويم الذاتي من فلسفة أخلاقية ابتداءً، تجعل من الضمير المهني الحيّ حكَما على كلّ عمل، فليس هناك أحدٌ يعلم حقيقة ما قمتَ به على الوجه الذي أديتَ به ذلك العمل إلا أنت نفسك، حتى المُلاحظ الخارجي أو المقيم المراقب قد يُخدع أحيانا ببعض السلوكيات أو ببعض الأعمال التي تكون مشوشة لعملية الحكم على الأداء، وعليه فالحقيقة مكمنها النفس البشرية لا أدوات المقيم الخارجي القاصرة غير الشاملة.

ومن ناحية أخرى، فإن التقويم الذاتي، كما أشرت آنفا، غدا مهما ولازما نظرا لتعدد الأعمال وتشابكها وكثرتها، وترابط بعضها ببعض، ومحدودية قدرة الشخص المؤدي لهذه الأعمال على الإحاطة بكل جوانبها من ناحية عملية، وإن تحصلت لديه المعرفة النظرية، إلا أن بعضها يطغى على الآخر خلال إنجاز العمل، فيأتي التقويم الذاتي ليكشف عما يحتاجه التربوي من تطوير في بعض الجوانب التي يدرك حقيقة ضعفه فيها وعدم تمكنه من أدائها على وجهها الأكمل، فيكون أكثر جرأة في مُصارحة نفسه والإقبال على أن يتزود بالمعارف والمهارات اللازمة التي يستدعيها العمل ليكون ناجحا ويؤدي إلى تحقيق الأهداف بشكل يُرضي ضميره الأخلاقي المهني.

إن العامل في المجال التربوي يحتاج في كل يوم إلى ما هو جديد ومستجد من مهارات، لم تكن قبل هذا اليوم لازمة، ومع تغير موقعه وتطوره في السلم الوظيفي أصبح واجبا عليه الإلمام بها، وإلا سينظر إليه على أنه مقصر، ولا ينفع العذر والتعلل بعدم المعرفة، فما على الإنسان إلا أن يتعلم ليعلم ويدرك فيتقن عمله، ولنأخذ على سبيل المثال مهارة إتقان استخدام الحاسوب لنرى كيف أنها مهاراته المتعددة غدت مهمة مطلوبة لكل من يعمل في الحقل التربوي، ولا مندوحة عن إتقان تلك المهارات.

لقد دخل الحاسوب ببرامجه المتعددة وإمكانياته غير المحدودة جميع القطاعات التربوية بلا استثناء، وصار التربويون يتحدثون بآفاق التعليم الإلكتروني المفتوح، وتصميم البرامج التعليمية، والتواصل الإلكتروني السريع والفعال، والدخول في مشاريع مشتركة عالمية وإقليمية معتمدة على مهارات الحاسوب وما يتصل بها من مهارات ومعارف، فصار لازما أن يتقن التربويون توظيف هذه المهارات، ومن لم يتقنها منهم عليه أن يبادر لتعليم نفسه، ليكون أقدر على إنجاز أعماله بشكل أدق وأسرع وبأقل الجهد.

فليس بمعذور كل من لا يتقن مهارة التواصل عبر البريد الإلكتروني مثلاً، وعلى كل تربوي واجب أن يتعلم كيف إنشاء حسابات إلكترونية، وكيفية إرسال الرسائل وتحميل المرفقات، وكيفية تصميم المدونات التربوية وتحديثها وربطها بالمواقع التعليمية المهمة، وكيف يمكن أن تكون وسيلة تربوية لربط العاملين معا ضمن شبكة من إدارة إلكترونية ناجحة وفعالة، توفر الجهد والمال.

لقد شكل جهل بعض التربويين إتقان هذه المهارة معيقا حقيقيا للتواصل، فبدا الشخص محرجا ومرتبكا في تلك المواقف التي تستدعي منه المعرفة الحقيقية لتوظيف تلك المهارات واستخدامها، ولربما خسر الكثيرون فرصا للتقدم والعمل لأنهم يجهلون هذه المهارات وإتقانها، والأمثلة أكثر مما تعد وتحصى، فكان ضروريا أن يأخذ هؤلاء الأشخاص العبرة والعظة ضمن مفهوم التقويم الذاتي ليسارعوا ليتم تدارك الخلل، فيقوموا بتحسين مهاراتهم ليستطيعوا أداء واجباتهم بمهنية عالية ومرضية.

هذا بالنسبة للعاملين التربويين، فكيف يمكن لطلابنا أن ينتهجوا إستراتيجية التقويم الذاتي، ليكونوا أقدر على بناء شخصية متعلمة ذاتيا ومتطورة، وتسعى إلى التجديد والاندماج في وسائل العلم والمعرفة الحديثة وتحسين الأداء في المهارات التعليمية، وتحسين مستوى التحصيل العلمي، والكفايات الشخصية بكل جوانبها.

إن المعوّل في بناء هذه المهارة يعود في الدرجة الأولى على ما يقوم به المعلم نفسه من أنشطة تعليمية يومية صفية وغير صفية، فعليه أن يعوّد طلابه على التقويم الذاتي قبل أن يقوم هو نفسه بالتصحيح، وأن يمنحهم الفرصة الكافية للحكم على أدائهم من خلال الأنشطة التعليمية المنفذة، لتصبح عملية التقويم الذاتي نفسها نشاطا تعليميا وتربويا وأخلاقياً.

ومن أفضل التجارب التي تدفع الطالب إلى اختيار التقويم الذاتي والمبادرة للحكم على أدائه هو إتاحة المجال أمام الطلاب لتصميم الفعاليات التعليمية التي تعتمد نظام المجموعات الصغيرة المتجانسة وغير المتجانسة، والتي تقوم بتنفيذ أنشطة تعليمية بطريقة المشاريع الصغيرة أو الكبيرة، فلا بد من أن الطالب خلال تنفيذه للمشروع ضمن مجموعته مع متابعة المعلم وتوجيهه، سيكون قادرا على أن يعدّل من بعض الخطوات هو نفسه دون أن يطلب منه أحد ذلك، وسيكون قادرا على تقييم عمله وعمل مجموعته والموازنة بين أعمالهم وأعمال غيرهم من المجموعات الأخرى، وليكتسب خبرة عملية في بناء فكري تقويمي موضوعي يجعله قادرا على أن يحدد مستواه بين مجموعته، ومستوى مجموعته مع بقية المجموعات، فلا يتحيز لنفسه أو لمجموعته إن كانت أعمالهم ومخرجات مشروعاتهم أقل جودة، وليمتلك الشجاعة في أن يقول: زملائي هم أفضل مني، وقد أخفقتُ أو أخفقنا في هذا وهذا، وعلينا أن نعدّل في المرات القادمة.

لعلّ المعلم إن اتبع هذا الأسلوب منهجا في التعليم والتقويم ووضع الطلاب أمام مسؤولياتهم الأخلاقية موجها لهم ودافعا لهم ليكونوا أصحاب قرار وقدرة على اتخاذه وتنفيذه بدءا من تصميم النشاط وانتهاء بالمخرج وعرضه مرورا بعمليات التقويم الذاتي، فسيكون لدينا في المحصلة طلاب قادرون على أن يحكموا على أدائهم في أعمالهم في البيت ومواقع وظائفهم فيما بعد، وستكون قراراتهم أكثر حكمة وأعمالهم أكثر إتقانا، وبالتالي سنكون قد ساهمنا في بناء شخصية إنسانية مجتمعية متوازنة وعملية وموضوعية، لا يهزها الخطأ ولا يدمرها، ولكنها تستفيد منه لتتلافاه في قادم العمل.

هل إلى ذلك الطالب والتربوي المتطور من سبيل؟ وهل سيكون التقويم الذاتي إستراتيجيتنا جميعا؟ تدبروا كم نحتاج إلى هؤلاء في حياتنا ومدارسنا، وهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم المسؤول، وتأملوا أهمية ذلك ونفعه الكبير فيما نحياه من حياة، جُعلت فداءكم!!