جسد معاق وإنسانية ملوّثة

جسد معاق وإنسانية ملوّثة

ابتهال قدور

[email protected]

إن أمة يخرجها من الإيمان أن يبيت أحد أفرادها شبعان وجاره جائع، لايمكن أن تكون في حالة إيمان حين يكون بعضها آمن وجار لها يذبح...

أمة من أبرز ماينبغي لها هو أن تكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له جميع الأعضاء بالسهر والحمى، لا تحمل حتما مواصفات الأمة الواحدة حين يغلق كل بلد فيها على نفسه أبواب حدوده ويتجاهل مايحدث خلف تلك الحدود...

والأمة التي تكون كالجسد الواحد تكون أمة حيّة بمعنى أنها تحقق إنسانيتها بكل أبعادها، أما عندما يختار جلُها الصمت والتنعم أو العيش بنفس الرتابة، والتمسك بنفس العادات والطقوس فيما يذبح جزء منها، فهذا يعني أنها أمّة ميتة "إنسانياً"، وإن كانت مازالت تحيا "بيولوجياً"... 

إن مايحدث في سوريا أمر غير بسيط ولا عادي...هو بكل المقاييس خطير، وبكل الاعتبارات مرعب، وسكوت الأمة عنه لمدة عام ونصف أمر لا يقل خطورة ولا رعباً...

فأخطر مايمكن أن يصيب أمة ما هو أن يتم تجريدها من روح الفعل والتغيير، وأن يصيبها داء اللامبالاة، وأن لاترى لها أفقاً ولا امتداداً خلف حدودها... فإذا كان هذا الإنسان قد خلق لإعمار الكون وإصلاحه، ثم راح يتفرج على من يقوم بهدمه وتدميره، فهو من الناحية العملية قد فقد الغاية من وجوده، والهدف من كينونته...

وماتغييب الشعوب المتعمّد عن مختلف قضايا الحياة فضلا عن قضايا الأمة، إلاّ لتحقيق تلك الغايات...كل شعب من شعوب هذه الأمة التي يفترض بها أن تكون على قلب رجل واحد يبدو وكأنه منعزل عن مايقع بجواره، متقوقع حول ذاته بحيث لايعمل أفراده إلا على تحقيق متعهم وتأمين راحتهم غير مستشعرين لأي خطر لا يمثل لهم ألماً شخصياً، فما دامت الأخطار بعيدة عنهم يبقى الشعور بها ضعيف ضئيل لا يستدعي حراكاً...

 واحدة من أحدث صور موت الشعوب هي اعتيادها على مشاهد القتل واستمراؤها لأخبار الذبح واكتفاؤها بالحوقلة و رفع أكف الدعاء..ثم تراجعها، وترددها وتململها أمام طلب تقديم أي فعل يحدث أثراً، أو أمام طلب تقديم بعض المعونات المادية...ولست من الناكرات لعطاءات الكثيرين، لكنني أقارن تلك العطاءات بحجم الاحتياجات فأجد أنها ضئيلة، وأقارنها بحجم ماينفق على الكماليات فأجدها باهتة !

منذ أيام فقط زارتني زميلة في مكتبي تحدثني كيف أنها تنفق مرتبها الذي أصبح كبيراً، بعد أن تم تعديله بقرار حكومي على لباس ومطاعم وإكسسوارات، و عندما قمنا بحملة لجمع التبرعات لسوريا كان المبلغ الذي تبرعت به هزيلاً ومخجلاً !

هذه الحالة ليست فردية، وليست استثنائية أو شاذة، إنها الحالة السائدة والعامة، إنها حالة الأمة، بينما الحالات الخاصة والمميزة هي تلك التي تفعل و تبذل وتضحي بأوقاتها وراحتها وأمنها ومالها...

تمنيت – مثلا - أن يتقلص حجم المسافرين للسياحة في دول الجوار، تعاطفاً مع جارهم السوري الذي يذبح، ولكنني حين راجعت حركة السفر في موسمه وجدتها قد ارتفعت...!

تمنيت مظاهرات عارمة تملأ شوارع العواصم والمدن العربية، تستنكر الاعتدات الفظيعة، فتحدث ضغطاً على حكوماتها، لكن هذا لم يحدث بما يتناسب مع حجم الجريمة!

تمنيت أصواتاً أعلى لمنظمات حقوق الإنسان، وللعاملين فيها، لكنها ظلت تتحرك على استحياء..

تمنيت أن نغير نمط حياتنا ولو جزئياً، ونستغني عن الكثير مما لا حاجة ماسّة له ونعود به على من أصبحوا مشردين على الأرصفة، وعلى أولئك المصابين الذين رحنا نضحي بأطرافهم بسبب عدم وجود دواء ومعدات تكفي لعمليات جراحية تحفظ لهم تلك الأطراف...

وماذا يحدث عندما تتلوث إنسانيتنا؟! يحدث مايحدث حالياً.. ذبح شعب بكامله، اغتصاب لنسائه، إذلال لشيوخه، اعتقالات بلا هوادة، تعذيب للطفولة، قهر للأمومة، تدمير للبيوت، إبادة للأحياء، تخريب للمدن، حرق للمساجد العريقة...والأسواق العتيقة، والقلاع التاريخية... في ذات الوقت خلف حدود ذلك البلد، حياة بذخ و متع و رفاهية بلا منغص ولا معكر لصفو أناس هم من نفس الأمة يدينون بديننا، بل وبمذهبنا، يتحدثون بلغتنا، ويشاركوننا تاريخنا...يا لدهشتي من هذا العار!

إن أثمن ما خسرناه خلال عقود الطغيان هو تلويث إنسانيتنا، وعندما تتلوث هذه يسهل بعد ذلك إحداث كل التشويهات عليها...قامت الثورات هذا صحيح لكن الثورات لم تصلح حال الإنسان العربي، إصلاحه يحتاج إلى جهود لإعادة تأهيله، يحتاج أول ما يحتاج لأن يستعيد إنسانيته معافاة سليمة، بعدها يصحو الضمير، ويرتفع صوت الأخلاق، بعدها لن يكون بالإمكان أن ينام أحدنا على مخدة وثيرة وجاره يفترش أرضاً ملغّمة وسماءاً تمطره بالقنابل...

إحذروا يا أبناء أمتي فإن أعداء الشعوب يقومون بترويضنا، لأن السماح باستمرار مجازر بهذا الحجم وهذا النوع، يسنّ سنة خطيرة وهي رفع معدلات القتل، وإعلاء سقف المجازر في سبيل الإبقاء على الطغاة، والحفاظ على تسلطهم...

وسنّة قذرة أخرى يسنها هذا السكوت على المجزرة السورية، وهي شرعنة الاستفراد بالشعوب، وإغلاق الحدود دونها وإبادتها إن هي أرادت تحرراً من ظلم وطغيان...وما تكريس صمت الجار اليوم و إشغاله بملذاته في حين وقوع الجريمة في بيت جاره، إلاّ إيذانا ببدء أسلوب جديد ونمط مستحدث في مواجهة نهضة الشعوب وثوراتها، وأبرز دعم لهذا الأسلوب هو أن يكون فيه أبناء الأمة الواحدة على قلوب متباعدة متفرقة...

اعذروني فإني أبصر عقوبة إلهية متربصة بكل جار صامت...