ثورة الفلاح .. رغم إثخان الجراح

فضيلة الشيخ نور الدين قره علي

بعد هذه الفترة المباركة من تاريخ أمتنا ، والتي تخضع اليوم من خلال أحداثها إلى تقسيم وترتيب ، وأبحاث ودراسات ، ويُجند لها حشود من أهل الاختصاص والخبرات ،

بعد هذه الفترة العظيمة ، يمكننا أن نرصد دقة الأرباح والخسارات ، وأن نتابع ما يدور في أذهان الناس من تصورات ، وما يتناقله بحر الإعلام من أخبار ومقالات ،

ولكم يتلمظ الكثيرون من أهل الأوهام أن تخرج نتائج الرزيات لتصرخ بأخبار الخيبة والخسران ، وتبكي ما كانت تحمله الأيام مما يسميه هؤلاء أمنا أو رخاء أو استقرارا ،

ولكم ينتظر الكثيرون همسة تصدر من هنا أو هناك ، تحكي ما تعانيه الأمة من المرارة ، ليرفع بها صوتا ، وليُحدث لها بوقا , ويضخم لها نبأ ، وليعقد حولها مجالس ويقيم لها ندوات ،

نعم .. لا غبار على الإطلاق على أحد يرصد الأزمة وخسائرها ، والمعركة وفظائعها ، والمجابهة وجرائمها وتضحياتها ، لا ضير على أي مخلوق أن يصور النكبة بكل أبعادها ، وأن ينقل أخبار الهدم واللطم ، والخراب والدمار ، والفقر والبوار ، ولا حرج على من يرفع الويل والثبور لفناء دولة وزوال مدنها وقدسياتها ، وتدمير مدارسها ومساجدها وجامعاتها ، وخراب مصانعها ، وبوار أراضيها وزراعتها ، ومسح ما علا من دورها وبيوتها وآثارها ،

كل ذلك حصل ويحصل ، نشاهده في كل لحظة ، ويأتينا نبؤه مصورا مع التحليل في كل ثانية ، ويسجل العالم أن ما يحدث في سورية لم يعرفه هذا العالم ، وأن ما يقوم به رئيس دولة من هدم بنية دولته لم يمر عبر التاريخ ، وربما لن تسجله بقية الدهور والأزمان ، وهذا ما نسميه بالخسائر ، وقد لا تكفي لتسميته مثل هذه المصطلحات ،

سمعنا عن المغول والتتار ، ورأينا الخراب في الأطلال والآثار ، وقرأنا الكتب وروايات التاريخ والأخبار، وعلمنا بأن زحفا ظالما دمّر كل ما حول بلاده ليعود إلى بلاده مكللا بتاج الظفر والفخار ، ولكنا لم نسمع أبدا وربما لن نسمع مستقبلا بأن وحشا ضاريا من هؤلاء يترك العالم كله ويفرّ من وجه خصومه وأدعياء عدائه ليقوم هو وبيده بدمار بلاده من شرقها لمغربها ، وشرقها وغربها ، ويتفنن بإخراج كل السلاح جوا وبحرا وبرا ، ليذيق شعبه كل أنواع نارها ، وشرر تفجيرها ، وبطش تدميرها ، بلدة بلدة ، وقرية قرية ، ومؤسسة مؤسسة ، لأنه يُجري أعظم عملية جراحية عرفها التاريخ ، ويصفق له جميع من حشدهم من حشرات وأشرار ،

خسارات ومهلكات ، يمكن أن تسردها المنابر سنين ودهورا دون توقف ، ولكن هل هي في حقيقة الأمر خسارات ؟ وهل يمكن جدولتها وحدها على ورقة الحساب تاريخيا ؟ أم لا بد من أن نجدول أمامها رصيد الأرباح وكبير المنجزات ، ثم نعلن نتيجة البحث الدقيق والحساب العميق على رؤوس العالم وشهود الحروب والثورات ، ودارسي العمران والنهضات ،

إليكم يا قومنا ما سجله شعبنا من إنجازات وأرباح وانتصارات ، إليكم فاتحة الشرف التي يرفعها شعبنا فردا فردا وهو يعاني مثل هذه الأزمات ، إن شعبنا يعلن أمام التاريخ الذي تطلع وشاهد وراقب وسجل أنه بدأ يعرف الحياة التي حُرم منها طوال خمسين عاما من حكم هؤلاء الأوغاد ، وأنه خرج من تحت بسطار الذل الذي حاول أن يمدده هؤلاء المجرمون العتاة ، وأنه إذا قدم الآلاف من ابنائه فإنه قدمهم شهداء رافعي الرؤوس وهو يحلقون في أجواء السماء ،

وأن ما هُدم من البيوت والمؤسسات إنما كان من أجل بناء أمة مجيدة ، ترفع قيمها قبل أن تشيد بناء المؤسسات ، وتعيد أمجادها وهي تحمل لبناء بيوتها اللبنات ، وتشيد لأمة المجد مستقبلها بعد أن مسحت عن جدرانها صور أولئك الأوغاد ، وأن المهجرين في هذه الأزمة هم الذين أُخرجوا من ديارهم ظلما وليس انسحابا ، وأنهم النوع المميز الذي سيصطف رافع الرأس ليأخذ بيد اللاجئين الذين أخرجتهم الخيانات عن أرض فلسطين ، أو النازحين الذين كانوا ضحايا خيانة عام 1967 ، أو الوافدين الذين باعهم بائع الجولان رمز الخيانة ـ الأسد ـ عام 1973 ،

أما من خرجوا من سورية فهم الذين أرادوا أن يحرروا البلاد والعباد من طغيان أصحاب تلكم الخيانات ، فهم مهاجروا جهاد ونهضة قام بها شعب سورية في وجه الطغيان والاستبداد ،

نكبة سوريا من أجل محو آثاركل النكبات ، شهداء سوريا من أجل تمجيد كل أبطال الانتصارات ، مهاجرو سوريا هم الذين فتحوا صدورهم في مجابهة البغاة ، أموال الإغاثة من محسني سورية إلى إخوانهم من أجل تحريرهم من دفع الرسوم والإتاوات لجلاوزة البعث الذين باعوا قيم الحياة ، لا خسارة في الأموال ، بل الخسارة كانت عندما كنا ندفع أتاوة في عهد الظلمات ، لا موت لأبنائنا بل شهادة بدل الموت الذي كان يعيشه كل شاب في عهد الطغاة ، لا هدم لمؤسساتنا لأنها كانت مستعمرات لجيش الأسد من الطغاة ، لا خسارة لمدننا فإنها كانت ملجأً لشبيحة هؤلاء ، أحاطوا بها من كل جانب ، لا خسارة لعلمائنا فقد أفرزوا الحقيقة في خروجهم ونضالهم ، وفضحوا أولئك القابعين في جحور الخوف والتبعية يخونون أمانة كل الهداة والدعاة ،

لا لا .. إن الشام باقية ببركتها ، ومن علامات بركتها أنها اهتزت وربت وفاضت ينابيعها ، لتطهر ببركتها ما كدّر صفوها من شراذمة الشر ، وأذناب الأطماع ، وذئاب المكر والخداع ،

وبين الخسارة والربح معادلات لابد من قراءتها قبل أن يزفر مغرض على منبره يبكي أمجادا موهومة ، وقبل أن يطلع سياسي على كرسي وهمه يحكي صولة الأسد مقاومة أو ممانعة ، وقبل أن يهمس جبان لا يوقر قيمة لمواقف التضحيات المبذولة ، ويريد أن يستر ضعفه بعنهجيته بين مهازيل الحياة ...

ولا يحق لنا استخدام ربح أوخسارة ، فتلكم عبارات الأسواق ، وإنما يمكننا أن نقول :

إنه فلاح يطوّح بكل أنواع الخذلان .. إنه رب يتخذ من سورية أعظم قافلة في التاريخ من الشهداء ..

إنها قضية إرادة تحرير أمة بمقابل طغيان أسرة تورّمت إجراما .. إنها شهادة تنتفض في وجه رذائل وجرائم أعتى العصابات .. إنه تفوق إنساني نصرة لقيم الحياة .. ونصر مؤزر يعقد لواءه أحرار الوجود .. إنها سورية تخوض معركة عالم يريد أن يلعب به أدعياء الحياة ...