النزعة البربريّة... الحقائق والخلفيات
عبد العزيز كحيل
النزعة البربرية تيار ثقافي سياسي متواجد بالمغرب العربي – وفي المغرب والجزائر بصفة خاصّة –يستمدّ مقوّماته من العرق الأمازيغي ويدعو إلى تبنّي اللغة الأمازيغية، بدأ في الجزائر – التي أخصّها بالحديث في هذا المقال – كحركة ثقافية لينتهي في المدّة الأخيرة إلى كيان أو بالأحرى كيانات سياسية ايديولوجية متطرّفة تهدّد وحدة البلاد وثوابتها الوطنية، ولها اليوم حضور إعلامي ضخم عبر أحزاب وجرائد ومحطة تلفزيونية لا يتناسب حجمها الكبير مع محدودية النزعة في الزمان والمكان والساحة الاجتماعية، فهي تزعم التحدث باسم الشعب الجزائري لأنه شعب أمازيغي لكنّها في الواقع تغلّب الانتماء الجهوي الضيق على البُعد الوطني، فلا تتواجد سوى في منطقة القبائل –أي في ولايتي تيزي وزّو و بجاية بالأساس – أمّا الأمازيغ الشاوية في شرق الجزائر – وكاتب هذه السطور منهم – فلا علاقة لهم إطلاقا بهذه النزعة، ولا سكّان وادي ميزاب بالجنوب المشهورين بالتمسّك الشديد بالإسلام والعربية، ولأهل هذه المناطق الثلاث لهجات محلية مختلفة تنحدر كلّها من اللغة البربرية المندرسة.
· صناعة فرنسية:
إنّ النزعة البربرية صناعة فرنسية بامتياز، بدأ التخطيط لها بعد سيطرة الاحتلال الفرنسي على الجزائروسعيه إلى دمجها في الكيان الفرنسي وإلحاقها به، ولتحقيق هذا الهدف ركّز على زرع التفرقة بين السكان وقسّمهم على أساس جنسي إلى بربر وعرب، مدعيًا أنّ كلا الفرعين لا يمتّ أحدهما بصلة إلى الآخر، وأنّ العرب ما هم إلاّ دخلاء ومحتلّون.
وفكرة التمييز هذه وما صحبها من نظريات بشأن أصل البربر هي الأطروحة المركزية في الفكر الاستعماري الفرنسي في شمال إفريقيا، فقد تسلّطت على تاريخ المنطقة فشوّهته وحرّفت حقائقه وفسّرت كثيراً من الأحداث التاريخية على أنّها صراعات تعبّر عن ذاتية البربر ونزوعهم القومي.
وقد تمكّن الاستعمار الفرنسي من تسجيل نقاط لصالحه على الصعيد الثقافي والسياسي عندما كوّن متبنّين للنزعة البربرية من أبناء منطقة القبائل المعروفين بالفركوفونيّين، ليلتحق بهم كلّ ذوي النزعة الصليبية من المغالين في عدائهم للانتماء العربي الاسلامي حتّى أولئك الذين لا علاقة لهم بالأمازيغية، ومن أبرز هؤلاء "كاتب ياسين"– الكاتب الشيوعي المتطرّف - ،فقد تبنّى النزعة البربرية بقوّة وصراحة رغم أنه "لا يفهم كلمة أمازيغية واحدة" كما كان يقول، وأطلق على ابنه اسم "أمازيغ"، وقد صدق فيه وفي ابنه قول الله تعالى "ذرية بعضها من بعض" - سورة آل عمران 34، فكلاهما من غلاة الشيوعيين المبغضين لكلّ ما هو عربي وإسلامي.
ومنذ احتلال الجزائر في سنة 1830 عمل الفرنسيون على تثبيت أقدامهم في الجزائر عبر كسب ودّ منطقة القبائل، وكثّفوا من بعثاتهم إليها، بتعليم اللغة الفرنسية و مضاعفة جهود لتنصير، موازاة مع ترويج كراهية العرب والتمرّد على الاسلام بزعم أن البربر جرمان هاجروا من أوروبا، ومن ثم فهم أقرب الى الفرنسيين والاوروبيين عامة منهم إلى بقية الجزائريين.
وقد استخدم الاستعمار الفرنسي الورقة البربرية لشقّ الصف الوطني الجزائري، ففي أواخر الاربعينيات من القرن العشرين أدرك أنّ تماسك "حزب الشعب الجزائري"يهدّد المخططات التي تستهدف فرنسة الجزائر، فقرّر تدميره من الداخل عبر بثّ النزعة البربرية في صفوفه بواسطة عملائه الذين شكّلوا تنظيما باسم "حزب الشعب البربري"، غير أن الحركة الوطنية أجهضت العملية ووأدت الفتنة في مهدها، ومن المعروف الموثّق أن الذين استُخدموا لإذكاء تلك الفتنة هم من الشيوعيين الذين انخلعوا من مشاعر الولاء للإسلام والعربية، فسهل تجنيدهم لتغذية النزعة البربرية والدعوة الى مخاصمة الاسلام والعربية ونبذهما معاً، ثمّ انضمّ إليهم لاحقا غلاة العلمانيين والتغريبيين، وقد أشبع الباحثون الجزائريون مسألة الرعاية الفرنسية للنزعة البربرية بحثا، حتّى تخصّص بعضهم في هذا المجال، وعلى رأسهم الدكتور عثمان سعدي والدكتور احمد بن نعمان، وكلاهما أمازيغي، فالأول شاوي والثاني قبائلي، وهما من أشدّ الرافضين للنزعة البربرية.
· الامتداد والأخطاء بعد الاستقلال:
عندما استقلت الجزائر عمل الفرنسيون على تطبيق خطتهم البربرية، فأسّسوا الأكاديمية البربرية سنة 1967 في باريس، فقامت بإعداد العشرات من حاملي الماجستير والدكتوراه في اللغة البربرية، أشهرهم سالم شاكر، وربطتهم بأجهزة الاستخبارات الفرنسية، لتصنع ضرّة للعربية من البربرية فتدخلان في صراع بينهما يُبقي الهيمنة اللغة الفرنسية، وهو ما حدث بالفعل.
في هذا الإطار تحرّكت عناصر إثنية تسعى إلى تكوين كيانات مستقلة تحت غطاء ضمان حقوق ثقافية ولغوية خاصّة للأمازيغ، وكان المستهدف بالدرجة الأولى هو اللغة العربية، فهم يعتبرونها لغة دخيلة وأنها وراء هذا الركام الثقافي الإسلامي ، لهذا لا يتورّع دعاة البربرية حين يتكلمون عن الشخصية "الأمازيغية " عن الدعوة إلى مناهضة " هيمنة الإيديولوجية العربية الإسلامية " لخلق تمايز لغوي وثقافي، وهذا غير منسجم مع الوضع الميداني لأنّ القاعدة العريضة للأمازيغ مسلمة قحّة ولهجاتها البربرية لا تخلو من درجة عالية من الاختراق اللغوي العربي لأنّها بُنيات شفاهية محلية يقتصر دورها على التعبير عن الحاجيات البسيطة للمجموعات المحلية، فضلا عن كون اللغة العربية تنبض في قلب المناطق التي تنطق لهجات ذات أصل " أمازيغي".
ولا ينكر منصف تراكم جراحات نفسيّة وثقافيّة وسياسية أثخنت جسم الأمة في ظلّ أحاديّة الرؤية والفكر والرأي، بسبب سياسات ما بعد الاستقلال، التي تبنّت للمجتمع قَسَمات فوقية يكتنفها الاختزال و ويلفّها الاستبداد، نتج عنها الإقصاء الذي فسح المجال لردود الفعل الطائشة المتشنّجة من قبَل المتربّصين بالثوابت الوطنية، وكلّ هذا حدث عندنا منذ الاستقلال بسبب تناول أنظمة الحكم للقضيّة البربريّة بكيفيّة زادتها تأسّناً وتأزّماً ورشّحتها لأخذ امتدادات دينيّة ولغويّة وسياسيّة.
أسباب موضوعية:
يمكن تلخيص أسباب بروز ظاهرة الغلوّ البربري بعد الاستقلال في ثلاث نقاط فاعلة:
- رغم أن الاسلام هو الوعاء الذي جمع مختلف مكوّنات المجتمع الجزائري منذ الفتح فصنع لها هوية واحدة جامعة إلا انّ النظام السياسي الذي قام بعد الاستقلال قد قلّص دور الدين وأضعف الرابطة الاسلامية بل وشوّه السمت الاسلامي، ذلك انّه نصّ في الدستور أن الاسلام دين الدولة لكنّه سلك الخيار الاشتراكي ثم الليبرالي وأهمل عقائد الاسلام وشرائعه وأخلاقه ومرجعيته، أي أنّه رفع شعار الاسلام وطبّق العلمانية، فحمّل خصومُه السياسيون أخطاءه وخطاياه للإسلام ذاته وناصبوه العداء بناء على ذلك، وحدث نفس الشيء للغة العربية، فهي اللغة الرسمية دستوريا لكن النظام الحاكم جعل من الفرنسية اللغة الرسمية في الواقع، فزعم دعاة البربرية أن لغتهم قد أقصتها العربية، وهذا غير صحيح إطلاقًا، فلغة الضاد مغيّبة في الدوائر الرسمية وحتّى على ألسنة أكبر المسؤولين، ويضايقونها إلى اليوم في جميع المجالات.
- تولّى زمام الأمور التيار الفرنكوفوني الذي سيطر على الإعلام والاقتصاد وكلّ مفاصل السياسة، وهو يؤمن بالنموذج الحضاري الغربي – والفرنسي تحديدا – كهوية وانتماء، ويرفض بالتالي المرجعية العربية الاسلامية رفضا قاطعا لأنها تمثّل في نظره الرجعية والانغلاق والتعصّب وتحمل في طياتها كل الشرور، وهؤلاء الفركوفونيّون لعبوا ورقة الأمازيغية إلى أبعد حدّ ولبسوا لبوس المدافعين عنها ،وأشعلوا صراعا بينها وبين العربية ليضعف كلاهما فتنفرد الفرنسية بالساحة، وهو ما وقع بالفعل.
- أدّى الحكم الشمولي إلى صياغة سياسات فوقية إقصائية تحكمها المصالح على حساب المبادئ، وكان لنظام الحكم محطّات تصادمية مع رموز من منطقة القبائل فاستغلّوا ذلك لتأجيج الصراع بينهما وأضفوا عليه الصبغة الإيديولوجية، وضخّموا المطالب الجهوية الإثنية والثقافية وبالغوا في التميّز على أساس لغوي أوّلا ثم صاغوا انتماء خاصّا يدعو إلى القطيعة مع المرجعية العربية الاسلامية، واللغة والدين براء من أيّ مسؤولية، لكنّه التوظيف الساذج حينا والماكر حينا آخر لتصفية الحسابات وتحقيق المآرب المشبوهة، لأنّ الشعب الجزائري كلّه عانى من خيارات ما بعد الاستقلال الفوقية ومن غياب الشورى والمشاركة الشعبية في تسيير شؤون البلاد.
· هذه هي الأمازيغية وهؤلاء دعاتها:
الأمازيغيّة – في أعين رموزها المعروفين بالغلوّ – بديل عن الانتماء العربيّ الإسلاميّ وخصم لدود له باعتبار أنّ الفتح الإسلامي مجرّد احتلال أجنبي لشمال أفريقيا وليس العرب المسلمون سوى محتلّين تمامًا مثل الرومان والوندال والبيزنطيّين والأتراك، ولا يفتأ دعاة الأمازيغيّة يتنادَون بالهويّة البربريّة ويرفضون البُعد العربيّ الإسلاميّ ويطالبون بالقطيعة معه، ويسهل فهم هذا الموقف إذا علمنا أنّ الحزب الشيوعيّ الجزائري– وقد أسّسه الفرنسيُون - هو الّذي كان يروّج له أثناء فترة الاستعماربناء على نظريّة "الأمّة الجزائريّة في إطار التّكوين" الّتي تشمل طوائف العرب والبربر واليهود الفرنسيّين والإسبان،لأنّ الانتماء يكون لأرض هي الجزائر فيُستبعَد بالتالي عنصر الدين واللغة، وقد ترك هذا المسعى الاستعماريّ بصمات واضحةً حيث أنّ الأغلبيّة الساحقة من دعاة الأمازيغيّة منذ الأربعينيات إلى اليوم يتميّزون بأمرين:
· تكوينهم تكوين فرنسيّ خالص إلى درجة أنّهم لا يتكلّمون حتّى القبائليّة التي يدعون إلى ترسيمها لغة رسمية – إن تكلّموها – إلاّ في الأوساط العائليّة، فألسنتُهم فرنسية قحّة رغم تخرّجهم من المدرسة الجزائرية المعرّبة !
· جهلهم – أو تجاهلهم المقصود؟ - الكامل بالثقافة العربيّة والإسلاميّة الّذي وصل إلى حدّ معاداتها بقوّة وصراحة، والسخرية منها ومن أتباعها ورموزها في كلّ مناسبة والدعوة الصريحة إلى نبذها.
وهم يشكّلون تيارا عدوانيا دائم الاستهزاء بما يُسمّونه "خرافة الجزائر العربيّة الإسلاميّة"، يرفع شعار "الجزائر جزائريّة" كبديل عن "الجزائر عربيّة إسلاميّة" الذي يؤمن به الشعب، وهذا مكر وتحايل واتباع سياسة متدرّجة من أجل الأهداف التّقسيميّة الخطيرة الّتي لا يمكن لدعاتها الإفصاح عنها جملةً واحدةً في بلد شديد التمسّك بمقوّمات الدّين واللغة وشديد الحساسيّة من دعوات التّجزئة والردّة، مع إقراره بوجود خصوصيّات محلّيّة أو جهويّة تقتصر على اللّهجات والأعراف، ومع ذلك تدرّجت الحركة الثقافية البربرية إلى حين أسّس أحد أطرافها الأكثر جرأة "الحركة من أجل استقلالية منطقة القبائل" في السنوات الأخيرة، وهي نسخة مكرّرة من فكرة "حزب الشعب القبائلي"، فتلاشت دعاوى البُعد الوطني للنزعة البربرية وبرز للعيان الانتماء الجهوي العنصري الانفصالي، تمامًا كما خطّطت فرنسا.
· منطقة القبائل معقل هذه النزعة:
· هناك حقيقة في غاية الأهميّة لا يجوز التغافل عنها تتمثّل في انحصار النزعة البربريّة منذ نشأتها إلى اليوم في منطقة معيّنة هي منطقة "القبائل"، وقد كان للاستعمار تركيز خاصّ عليها طيلة عهد الاحتلال حتّى وهنت بعض حصونها إلى حدّ ما من جرّاء هجومات الغزو الفكريّ، و مازالت آثار الحملات التنصيريّة المكثّفة باديةً، وقد كان لتنظيم "الآباء البيض" التنصيري حضور كثيف و نشاط متواصل هناك تحت غطاء العمل الخيري، ومن المفارقات أن منطقة القبائل لم تخل طيلة الاحتلال الفرنسي من ثورات مسلّحة تنطلق من المساجد والزوايا بقيادة علماء الدين، لكنّ الإرساليات الفرنسية تمكّنت من تنصير بعض العائلات القبائلية، منها أسرة عمروش التي أنجبت الكاتب الفرنكوفوني جان (كان اسمه موهوب فتركه بعد تنصّره) وأخته المغنية طاوس، ودعاة البربرية ومعهم كلّ التغريبيّين يحتفون بهما إلى اليوم أشدّ الاحتفاء، ويقيمون لهما مهرجانات لشجاعتهما في تحدّي الواقع والارتداد عن الاسلام !!!ويعتبرونهما نموذجا للقبائلي الحرّ الأبيّ !!!
إنّ الدراسة الموضوعيّة تفضي إلى نتيجة واضحة هي أنّه ليس كلّ الشعب الجزائريّ ذا نزعة بربريّة، ولا السكان ذوو الأصل البربري، ولا حتّى القبائل كلّهم، وإن كان الكثير منهم مادّة هذه النزعة، متأثّرين بها أكثر من غيرهم بسبب الضغط الإعلاميّ للتيار البربريّ وإرهابه الفكري ومكره وتزيينه للدعوة العرقيّة، لهذا وُجدت طائفة من الشعب يعتبرون أنفسهم قبائل قبل أن يكونوا جزائريّين، وبالغ بعضهم في ذلك حتّى سقط في شوفينيّة مقيتة تستبعد الانتماء الدينيّ واللغويّ والحضاريّ والجغرافيّ ! لتصنع مكانه انتماءً مشبوهاً مداره على لغة أو بالأحرى لهجة هي محترمة كغيرها من الألسنة لكنّها أبعد من أن تشكّل محور انبعاث شخصيّة حضاريّة متميّزة لأنّ الأمازيغيّة – إذا تساهلنا في الطرح وعددناها لغةً حيّةً – أداة احتضنها الإسلام واحتضنته منذ قرون خلت، فإذا انفصلت عنه لم تعد وسيلة تعبير وإنّما تصبح آلة تشويش إيديولوجيّ ثقافيّ وسيّاسيّ، وذلك ما عليه النزعة البربريّة الآن: الأمازيغيّة غطاء سياسيّ يخفي اسمه حيناً ويصرّح به حيناً آخر خاصّةً مذ حدثت الردّة في الحياة الديمقراطيّة.
فبعد أن كانت الأمازيغيّة لغةً جهويّةً محلية أصبحت لغةً يُراد لها أن تكون اللغة الوطنيّة والرسميّة (إلى جانب العربيّة أو في مكان العربيّة)، ثم أصبحت هويّةً متميّزةً عن الهويّة الّتي عرفها أبناء الجزائر منذ الفتح الإسلاميّ المبارك... ما هذه الهويّة الجديدة؟ يقولون إنّها الهويّة الجزائريّة المتوسطيّة المتّسمة بالتسامح (يقصدون تعدّد الأديان) وفصل الدين عن الدولة (العلمانية) والأخذ بأسباب العصرنة (أي التمسّك بذيل فرنسا)، وهكذا نجد العرقيّين يبغضون كلّ ما هو عربيّ وإسلاميّ ولا يلتزمون بأبسط الواجبات الدينيّة (أذكر على سبيل المثال أنّ رموزهم الحزبية والثقافية دأبوا على عقد ندواتهم الصحفيّة ولقاءاتهم الكبرى في منتصف يوم الجمعة، أي وقت الصلاة تماما) ويدعون إلى الأمازيغيّة باللغة الفرنسيّة ومن باريس بالتحديد !
وباسم هذه النزعة كاد النسيان يطوي العهود الزاهرة الّتي عرفتها هذه الربوع كدولة المرابطين ودولة الموحدين، وكادت معالم كبيرة تطمس كانطلاق فتح الأندلس من هنا، وكادت أسماء العظماء تُمحى من الذاكرة الجماعية كعقبة بن نافع وطارق بن زياد، لتعلو على أنقاضها أسماء يوغرطا و ماسينيسا والكاهنة، أي تُغيَّبُ رموز الإسلام برموز الجاهليّة، ويعلم الجميع أنّ دعاة البربرية يكتبون "لغتهم" هذه بالحروف اللاتينية ويرفضون بشدّة رأي عقلائهم في اعتماد الحروف العربية.
وينبغي التأكيد مرّة بعد مرّة أنّ منطقة القبائل ليست منساقة كلّها وراء النزعة البربرية رغم تمسّكها بلهجتها وأعرافها، وأثبتت أكثر من مرّة وبأكثر من شكل انصهارها في الجسم الوطني وانحيازها للإسلام، فولاية تيزي وزو تحتضن أكبر عدد من المساجد في الجزائر، أمّا بجاية فقد كانت عاصمة للدولة الحمادية ذات الصبغة العربية الإسلامية، وللصحوة الإسلامية وقع كبير وحضور لافت في الولايتين، لكنّ التعتيم الاعلامي يطمس الحقائق لأن غلاة الفركوفونيين متسلّطون على المنطقة بتواطئي من أطراف فاعلة في السلطة ويُرهبون السكّان فكريّا وماديّا لينساقوا وراء أطروحاتهم.
· مستقبل هذه النزعة :
بعد هذا نسأل: ما مصير هذه النزعة العرقيّة التي توظّف الثقافة والسياسة وأشياء أخرى للحصول على مزيد من المكاسب؟ لقد تنازلت لها السلطة مجانيا فرسّمت الأمازيغية لغة وطنية رغم أنف الأغلبية الساحقة من الجزائرييّن فأخذت تصبو إلى المزيد، وقد غدت ورقةً سياسيّةً يلعبها عند الحاجة أكثر من طرف في الداخل والخارج، لكنّها وإن حقّقت بعض المكاسب إلاّ أنّ تمسّك الشعب بثوابته وبشخصيّته كفيل بدحضها، ففي منطقة القبائل صحوة إسلاميّة نشيطة تتحدّى العنت وتجتاز الحواجز وتمكّن للإسلام والعربيّة، وفيها علماء ودعاة ومثقّفون يستبسلون في مقاومة الفرنكوفيليّة والعلمانيّة والتنصير ومختلف الأنشطة الهدّامة ،وهذا مؤشّر خير، ولولا التعتيم الإعلامي والإرهاب الفكري المسلّط على المنطقة لرأى الناس تمسّك أغلبية القبائل بالمرجعية الوطنية و لاستمعوا بدهشة إلى الأناشيد الإسلاميّة بالقبائليّة و لتأكّدوا من اعتزاز القبائل بأصالتهم.