حول زيارة البابا لـ «لبنان»
ياسر الزعاترة
منذ مجيئه إلى سدة البابوية لم يسجل بابا الفاتيكان الحالي بنديكتوس السادس عشر ودا حيال المسلمين، فيما خصَّ اليهود باعتذاره الشهير، مع أنه في أحد تصريحاته كان مذهبيا مع المسيحيين أنفسهم حين جعل المذهب الكاثوليكي هو الطريق الصحيح إلى الرب.
في محاضرته بألمانيا (2006) بعد وقت قليل من تنصيبه، شن البابا هجوما على الإسلام حين ربط بينه وبين الإرهاب، فيما تجاهل مطلب الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالاعتذار للمسلمين عن حقبة الحروب الصليبية أسوة باعتذاره لليهود.
فضلا عن مجيئها في ظل قضية الفيلم المسيء، تأتي زيارة البابا للبنان في ظل مخاض سياسي غير مسبوق في المنطقة ظهر فيه جدل الأقليات بقوة، أعني موقفها من الثورات العربية، أو ما عُرف بالربيع العربي، لاسيَّما أن بعضها كان له موقفه المساند للأوضاع القديمة، بخاصة في مصر، والأهم في سوريا هذه الأيام.
في زيارته الحالية لبنان خلط البابا خطابا جيدا بآخر ينطوي على إثارة لحساسيات المسلمين، لكنه سعى للتوفيق بين شتى الآراء، ربما لطبيعة البلد الذي جاء إليه، فضلا عن طبيعة الاستقبال الذي حظي به من سائر الطوائف في لبنان، لاسيَّما أن حزب الله يعيش ربيع علاقة متميزة مع الممثل الأكبر للمارونية السياسية، أعني الجنرال عون.
في شق من الزيارة بدا واضحا أن البابا قد جاء داعما لمسيحيي لبنان والشرق في مواجهة مخاطر يعتقدون أنها تتهددهم، ولذلك طالبهم بالتشبث بأرضهم، لأنهم ليسوا أقلية، بل سكان البلاد الأصليين بحسب تعبيره. في ذات الوقت الذي طالبهم فيه بالتعايش مع جيرانهم من الطوائف الأخرى (هناك مبالغة في توصيف أسباب هجرة المسيحيين عبر ربطها بمظالم معينة، مع أنه لو مُنح المسلمون تسهيلات مماثلة للهجرة إلى الغرب لهاجر عشرات الملايين أيضا).
في موقفه من الربيع العربي قدم البابا خطابا جيدا، حيث وصفه بأنه «أمر إيجابي»، لكنه عطف ذلك بقول «إن صرخة الحرية هذه تواجه مخاطر لجهة إغفال شق التسامح». معتبرا أن «الأصولية هي دائما تحريف للدين ومهمة الكنيسة والأديان كافة تنقية نفسها ورفض العنف».
يثير هذا الكلام بعض الحساسية، لأن خلاصته أن فكرة الربيع العربي جيدة، لكنها تواجه مخاطر الأصولية، والأصولية هنا هي «الإسلام السياسي» كما يسميه البعض، والنتيجة أنه إذا لم يكن الربيع علمانيا، فسيكون خطيرا، وفي ذلك وضع لشرط مسبق على اختيارات الناس.
على أن الموقف من الثورة السورية لم يدخل في «إيجابية» الربيع العربي، إذ يبدو أن حساسيات الفريق المسيحي الأكثر تأثيرا في الساحة المارونية (الجنرال عون) قد تركت أثرها على موقف البابا حين قدم إشارة سلبية للثورة السورية بحديثه عن «خطيئة» نقل السلاح لسوريا، الأمر الذي يعني الثوار أكثر من سواهم، لأنهم همْ من يشكون قلة السلاح وليس النظام، لكن البابا عاد في اليوم التالي إلى إصلاح الموقف بقدر ما، حين أشاد بـ «شجاعة» الشباب السوري، مؤكداً لهم أنه لا ينسى سوريا وأنه «حزين لآلام» شعبها وأحزانه، لكن النتيجة بقيت أن موقفه لم يكن حاسما؛ لا لصالح الثورة ولا النظام.
وكان عون قد شنَّ قبل زيارة البابا بأيام هجوما شرسا على الثورة السورية انطوت على هجوم على الإسلام ذاته عندما قال إن الإخوان يريدون شريعة تعود للقرن الرابع عشر، معتبرا أن «تغيير النظام في سوريا قد يقضي علينا وعلى لبنان».
موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من زيارة البابا كان حادا بعض الشيء، ربما بتأثير أجواء الفيلم المسيء، وربما لأنه سبق تفاصيل الزيارة، فضلا عن الخلفيات القديمة للعلاقة، إذ قال في بيان له «في الوقت الذي يعمل فيه الاتحاد جاهدا لتهدئة غضب المسلمين في أنحاء العالم نتيجة إيذاء الآخرين لرسولهم الأكرم، يطالب الاتحاد بابا الفاتيكان بالاعتذار للمسلمين عما قاله في محاضرته (في ألمانيا) وفي الإرشاد الرسولي، وعما حدث من المجازر على أيدي الصليبيين في الأندلس كما اعتذر لليهود».
وأضاف البيان «الاتحاد حاول الحوار مع الفاتيكان ولكنه وجد أن الحوار من طرف واحد، كما أن البابا الحالي قد اتهم في محاضرته المعروفة الإسلام ورسوله الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم باتهامات باطلة، فطالبه الاتحاد بالاعتذار عما جاء فيه فلم يفعل، فقطع الاتحاد الحوار مع الفاتيكان إلى أن يعتذر، أو يتغير الوضع».
والحال أن مسألة العلاقة بين الطوائف الدينية والعرقية لا تزال في حاجة إلى مزيد من الحوار، لاسيَّما أن الربيع العربي قد جاء مبشرا بمعادلة جديدة تعلي قيمة الحرية والمواطنة بصرف النظر عن العرق واللون والدين والمذهب، من دون أن ينفي ذلك حق الغالبية في استلهام تراثها وثقافتها في بنائها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، طبعا دون افتئات على حقوق الأقليات، تماما كما يحدث في أوروبا التي تستلهم تراثها حتى إن الحزب الحاكم في ألمانيا هو الحزب الديمقراطي المسيحي، في حين يحضر الدين بقوة في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ليس مطلوبا أن يعترف أي دين بصحة الدين الآخر، ولا حتى بنبوة نبيه، فنحن نعرف أنه لا البابا ولا أتباعه يؤمنون بأن محمدا رسول من عند الله، وليس في ذلك مشكلة، فكل الأديان والمذاهب ترى نفسها الصواب وسواها الخطأ. المهم هو التعايش، والتعايش يقوم على الاحترام المتبادل وحفظ الحقوق، ومن ينكر على الغالبية المسلمة حقها في رفض الظلم والفساد والثورة عليه لا يمكن أن يكون ممن يؤدون حقوق الجوار.
هذا التنوع في هذه المنطقة يمكن أن يكون مصدر إثراء لها، وبوسع الجميع أن يتعايشوا في ظل دولة القانون والمواطنة. أما في الدكتاتوريات فالظلم يطال الجميع، لاسيَّما المستضعفين من الناس من شتى الطوائف والأعراق.