الحرية الفكرية في الإسلام
عدنان سعد الدين رحمه الله
المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية
كان المسجد كل شيء في حياة المسلمين، إنه دار للعبادة وساحة للقضاء، ومدرسة للتعليم والتوجيه، ومقر للأنشطة الاجتماعية كإبرام عقود الزواج، وملتقى للمسلمين خمس مرات في اليوم، ومنتدى للحوار حول أخطر الأمور في الشؤون العامة، كالبت في مصير الأراضي التي دخلها المسلمون في العراق وغيره.
من المسجد كانت تصدر توجيهات الخليفة في شؤون الحرب والسلم، وفي أمور الإصلاح والنصح، فكلما حزب المسلمين أمر ذو بال كالاستنفار العام والالتحاق بالجبهة، نودي: الصلاة جامعة، فيهرع الجميع إلى المسجد، ليستمعوا إلى توجيهات الخليفة وتعليماته التي يلقيها من فوق منبر المسجد النبوي الشريف.
في هذه الحياة المستقرة والمزدهرة، حدثت حوارات عجيبة وغير مسبوقة في تاريخ الإنسان من حيث الجرأة والصراحة وحرية الفكر، إذ كان لأي فرد من أفراد المجتمع الحق في مناقشة الخليفة والرد عليه، وتفنيد ما يصدر عنه من قرارات وتوجيهات، وكان الحوار يشمل جميع الأمور العامة منها والخاصة، فكان المسلمون يسألون الخليفة عن أحواله المعيشية ذات الصلة بالمأكل والملبس، وكان الخليفة يحرص على سماع النصح، بل كان يشجع عليه، حرصاً على تنبيه المسلمين له إذا غفل، وتذكيره إذا سها، كيلا يشغله شاغل الحكم عن إنصاف الناس، والعدل بينهم، وقضاء حاجاتهم، وتلبية متطلباتهم.. فالمرأة المسلمة تراجع الخليفة بشأن المهور، فيأخذ برأيها، ويتراجع عن رأيه، والخليفة يهيب بالمسلمين أن يكونوا على درجة عالية من اليقظة والمراقبة، فيسألهم قائلاً: كيف أنتم إذا فعلت برأسي هكذا وهكذا، كناية عن الإهمال والعوج، فيجيبه أحدهم على ملأ من الجموع الذين يغص المسجد بهم: نفعل لك بحد السيف هكذا وهكذا، فيقول الخليفة إياي تعني؟ فيأتيه الجواب: نعم إياك أعني، ويكرر الخليفة السؤال مرات ثلاثاً، ويتلقى الإجابة نفسها، حتى إذا بلغت اليقظة والترقب الغاية، ألقى الخليفة الراشد في روع المحشدين القول الفصل لتلتزم الأمة جمعاء به: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّم عمر بسيفه إذا اعوج.
هكذا كان شأن المسلمين في العهد الراشدي، وفي فترات من عصور الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ثم تراجعت هذه الظاهرة الزاهية في حياة المسلمين السياسية والفكرية، بل تلاشت ليحل محلها الاستبداد والطغيان من معظم الحاكمين، والخضوع والنفاق من جمهرة كبيرة من المواطنين.
وبالرغم من ذلك تبقى النصوص والتعاليم الإسلامية واضحة كفلق الصبح في ضمان حرية الفكر للمسلمين وللمواطنين، فقد منح الإسلام كل فرد الحق في إبداء رأيه والإعراب عما يقتنع به، وجعل من أبرز سمات المؤمنين جهرهم بما يرون، دون أن تأخذهم في الحق لومة لائم، فقد ظل مبدأ الحرية الفكرية مرعياً في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وكانت حرية الرأي مكفولة ومحوطة بهالة من القدسية، حتى إننا لا نعثر، في هذه المرحلة الذهبية التي تمثل مبادئ الإسلام أصدق تمثيل، على أية محاولة للحجر على الآراء أو التضييق عليها أو الإشاحة عن سماعها والأخذ بها أو الاستفادة منها.
فحرية الفكر، وحرية الخطابة، وحرية البحث العلمي، التي يزعم بعض المعاصرين أن الغرب قد سبق إليها، قد قررها الإسلام في أكمل صورها وأوسع نطاقها قبل أن يأخذ بها الغرب بألف ومائتي عام.
ويتبع حرية التفكير الحرية في إبداء الرأي سواء أوافق الآخرين أم خالفهم، لا يهاب صاحبه ولا يوجل، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولو كلفه في بعض الأحيان جهداً وابتلاءً، فعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، وفي المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كان لا نخاف في الله لومة لائم.
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالاً، ثم لا يقول به، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى، كما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الساكت عن الحق شيطاناً أخرس، فيقول: لا يكن أحدكم إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم.
لقد رفع الله مقام الذي يجهر برأيه في سبيل الحق بين يدي الولاة والسلاطين الذين يظلمون الناس إلى أعلى مراتب الشهداء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أكرم الشهداء على الله عز وجل رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر).
كتب أبو يوسف خطاباً إلى هارون الرشيد، أورده في مقدمة كتابه – الخراج - قال فيه: فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم القيامة إنما يدين العباد بأعمالهم، ولا يدينهم بمنازلهم.