بمقياس درجات سلم رجال الإطفاء..!
صالح خريسات
الحياة ليست جميلة، كما يتصورها بعض الكتاب الخياليين، أو بعض الرجال الميسورين. وشؤون الرزق في هذه البلاد، فتاكة بجسوم معظم البشر، قتالة لملكاتهم وأحلامهم. وهذه حال عشرات الألوف، بل مئات الألوف من العاملين والعاملات، في المتاجر، والمزارع، والمستشفيات، يكدحون آناء الليل وأطراف النهار، في بلعة من القوت، ولا يدركونها إلا بشق الأنفس.
أما سادتنا فماذا يفعلون ؟! دعونا نتخيل القصور والخمور والغواني الساحرات! دعونا نتخيل رحلات السفر البعيدة إلى أقاصي البراري! كم تبدو تكلفتها؟! كم يدفع كل رجل منهم، أجرة الفندق، وأجرة دخول المواقع المحظورة على أمثالنا؟! كم يدفع كل ليلة ثمن العشاء، في مطعمه المخصص له؟ وكم يدفع ثمن المشروبات الروحية، كالشمبانيا وأضرابها؟. وكم يدفع ثمن بذلة تلك السيدة معه، التي تتهادى كالطاووس، وتزبئر كديك الروم؟ وقس على هذا ألبسة سائر النساء الثريات، ودع الجواهر، والحلي، من ماس، ولؤلؤ، وفيروز، وزبرجد، فأثمانها تقدر بالملايين، وقد هجمت النعمة على كثير من السيدات، فأبطرتهن، فصرن يشترطن على الخياطين أن يضيفوا لكل سيدة ثوباً فريداً في زيه، لا يحق لغيرهن تقليده، ما لم يؤذن لهن بذلك. أما ثمن كل ثوب من هذه الطراز، فبالملايين أيضا. فإذا أضيف إليها السيارة والبذلة الأنيقة، والعطور الثمينة، وغير ذلك من النفقات، جاوز المجموع ما نتكسبه في عمرنا كله.
فما فضل هؤلاء الأسياد وهذه السيدات علينا؟ إننا نفكر ولا يفكرون، ونحس ولا يحسون، ونشعر ولا يشعرون، ونبدع ولا يبدعون، ونأمل ولا يأملون. وربما كنا أكثر منهم ومنهن، صدقاً، وشرفاً، وأقل إيذاء للناس.
إنني أقرأ كل يوم في القرآن، أن الله رفع بعض الناس فوق بعض درجات، فأنا من المؤمنين بهذا القول، لكنني أرى أن الله لم يجعل الدرجة الواحدة من تلك الدرجات، طويلة جداً، أي بطول السلم التي يستعملها جنود الإطفاء، في حرائق ناطحات السحاب في نيويورك، حتى يكون بعض الناس في الأوج، وبعضهم في الحضيض. وأجدني أسأل نفسي، أين الزكاة التي وردت في القرآن؟ وأين الغني الذي يزكي؟ وما مصير هذا المجتمع الأحمق، وفي حظوظ الناس المتفاوتة؟
ما الذي يجري ؟ أبواب العمل موصدة في وجه الشباب المثقف عندنا. وها هو يرفع شكواه الصادرة من أعماق نفسه، التي كادت تستسلم لليأس، وقد أضحى المستقبل أمامها أضيق من سم الخياط، إلى القابضين على زمام الأمور المتصرفين في مصيرها.
فالمواطنون حيثما يتظاهرون للحصول على الحق في العمل والعدالة في توزيع الثروات، فإنهم يكسبون البطالة مدلولاً جديداً. حينئذ تظهر البطالة "أم الرذائل" على حقيقتها: إنها شر يتولد عنه الشعور بالحرمان، وبالاستلاب الاقتصادي، مما يسبب ضعفاً ذهنياً، وانتشاراً للأجرام وانحلالاً في الأخلاق.
ونكرر هنا ما سبق لنا أن قلناه، إنه لا حريات، بل ولا كرامة للإنسان، ما دام يهدده الجوع والمرض، أو يفني كل ساعاته في جهد جاهد من أجل الحصول على الضروريات المادية، فالتحرر المادي أول مرحلة في سبيل التحرر الفكري والمعنوي .. ولا تحرير في الميدان الاقتصادي إلا عن طريق العمل والعدالة في توزيع الثروات.
فالعمل هو الأمل. إنه يحررنا من ربقة حاجات تضغط علينا جداً. فبمساعدة العمل نتجاوز الحياة النباتية المحض، ونعي أنفسنا بأننا لسنا مجرد جهاز هضمي.
إن العمل يثبت أن وجودنا إرادة مستقلة، وقدرة على الحركة والتغيير.إنه لا مكان للحرية حيث يوجد سادة وعبيد، شرفاء ووضعاء، أغنياء ومتروكين. ولهذا السبب، دون شك، يربط كل المصلحين وكل الأديان، مفهومي مساواة وحرية بمفهوم ثالث، يبدو أنه هو النتيجة التأليفية لهما: الإخاء. حرية الإنسان.
إن قدرتنا على نفي الأشياء، تظهر جانباً أساسياً من جوانب التحرر. إن القدرة على التلفظ ب " لا " قبل نعم، تجعلك تدخل في دين الله، وتنطوي تحت مظلة " لا إله إلا الله". إنها ميزة يختص بها النوع البشري. حقاً، بكلمة " لا " يضع الإنسان نفسه ككائن قادر على الاختيار، وقادر على أن يتحقق، لا كمجرد أفكار أو كمجرد رغبات. إن الشخص أفعال أنجزت، أو هي في طريق الإنجاز، بصفتها أفكاراً ورغبات ممكنة، أو نزوعا لظاهرات .
فماذا على الدولة أن تفعل؟ وهل يكفي أن تجد لهؤلاء عملا بسيطا يمنعهم من الشغب؟ وماذا نفعل بالأجر الزهيد؟ وماذا يفيد؟..إنها العدالة في توزيع الثروات، أو العودة إلى المربع نفسه" أسياد وعبيد".