فليعذرونا هكذا هو تفكيرنا!!
وخزة ضمير (39)
فراس حج محمد /فلسطين
تنتاب المرء حالات من العنف في التفكير، تجعله يرى الأمور بغير حجمها الطبيعي، وإن كانت في سياقها الصحيح، وتدور في فلكها الذي هو لها، ولكنها قد تُرى أضخم مما هي عليه أو أصغر مما يجب أن تكون، هكذا نختلف في نظرتنا للأمور، وتفسير الأحداث، فتكاد لا تجد اثنين من ذوي الألباب يتفقان على رأي واحد في مسألة واحدة، وهذا أمر طبيعي وفطري، ولا خلاف فيه.
وتختلف الآراء بين الناس بحكم موقعها الذي تحتله في هذه الحياة، فإذا كان الشخص غير متزوج فإنه لا يفكر إلا بنفسه، وتطغى عليه الفردية والأنانية بحكم أنه ليس مسئولا إلا عن نفسه، ويريد الخير لها، فليس مستعدا أن يفكر ضمن منظومة أبعد عن فلكه الذي يدور فيه، فترى الأنا عنده متضخمة، ويحوز لنفسه فقط، ولا يرى مصالح غيره، فلا يقول إلا اللهم نفسي نفسي.
ولكنه بمجرد أن يصبح زوجا مسؤولا عن بيت وتكوين أسرة، فإن الأنا المتضخمة تبدأ بالذوبان لتدور في فلك جديد، فيأخذ في التفكير بزوجته وبيته، ولا يكاد يبتعد الزوج في بداية حياته عن هذا المحور في التفكير إلا لماما، لكن الأزواج بطبيعة حالهم أنانيون ويتشاركون في صنع أنانية مزدوجة متبادلة بين طرفين، بمصالح مشتركة قائمة على المنفعة ضمن شروط من الحياة الزوجية المؤسسة على السعادة والتفاهم، ولكن الزوجين ليسا معنيين بغيرهما، فلهم هذا الكون الحالم، ولا يرون من فيه من كائنات بشرية تدور حولهم، فهم عن الناس في صمم.
وتحدث المفاجأة وتتبدل الأحوال، ويختلف التفكير، ويصبح عابرا للزمن، متطلعا لكشف المجهول، حريصا على شبكة من العلاقات المتداخلة، وذلك بسبب أن في المسألة أبناء ينتظرون الرعاية والعناية، فليس بمقدور أب من الآباء إلا أن يكون تفكيره متجاوزا واقعه وما يراه، فليس بآني وأناني، بل تراه يربط المسائل ببعضها، ويرتبها ترتيبا بمنطقه هو كونه أبا مسؤولا، فليس لنا أن نعيب عليه أو نتهمه اتهامات باطلة بأنه غير عادل أو أنه ديكتاتور، بل يفعل ما يراه مناسبا لأنه يرى أكثر مما نرى، أو هكذا يتصور الأمور ويفسرها، فمنطقه طبيعي، وليس لأحد أن يلوم أبا يفكر بطريقته الخاصة لمصلحة أبنائه، فليس هناك من هو أحرص على أبناء المرء من نفسه، وهنا يجب أن نتدبر الحكمة والتعقل التي يتحلى بها الأب في اتخاذ قرارات غير متعجلة، وخاصة في مسائل حساسة ومهمة ومصيرية، كقرارات العمل والسفر والدراسة مثلا، وفي المقابل فإنه يجب على الآباء أن لا يضخموا الأمور وأن ينظروا إليها بحجمها الطبيعي وسياقها ومناخها الأصلي، لتكون النتائج أفضل.
إن ما يحدث في مجتمعاتنا، تجعل المرء محتارا في مسألتين، وهما الدافع لكتابة هذه الوخزة، أولى هاتين المسألتين أننا لا نعذر بعضنا في تفكيرنا المختلف، ونشنع على بعضنا التشنيع العظيم، فيجب أن ندرك أن الشاب تفكيره مختلف عن تفكير كبير السن، فلنعط كل منهما حقه في التفكير بطريقته، وألا نعيب عليه، فظروفه الاجتماعية وسنه وطبيعة تكوينه لا تحمله إلا على هذا التفكير، وهو عقلاني ومنطقي إن كان معبرا فعلا عن رأي تقبله الطبيعة والسن والمرحلة.
وأما المسألة الأخرى فهي عدم اصطناع الحكمة في التصرف ووضع المرء نفسه في وضع لا يحق له أن يكون فيه، فليس بمقدور أحد أن يفكر عن أحد مهما كان مفكرا وعقلانيا وشهد له الجميع بذلك، فالجميع يرى أنه أهل للتفكير العظيم وأن تفكيره لا قبله ولا بعده، وهنا تكون الكارثة، فللجميع الحق في التفكير، ولكن فلندرك أننا لسنا على صواب دائما، بل إن الصواب الواحد له تدرجات في سلم الصحة والخطأ، فلا صوابَ كامل ولا خطأ كامل، لا عند الشباب ولا عند كبار السن، ولكن تتفاوت الأمور بحكم اعتبارات كثيرة، فليعذر بعضنا بعضا، فهكذا هو تفكيرنا آباء وأبناء وأزوجا، ولن يكون غيره إن كنا صادقين مع أنفسنا.