الإنسان أولاً

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

فى منتدى القناة الثقافية المصرية شاركت ثلاثة من الأساتذة الجامعيين الأجلاء . كان الموضوع عن الأصالة والحداثة والتغريب ، وكان المحور الأخير من الندوة عن " الأسس التى يمكن أن يقوم عليها مشروعنا النهضوي المستقبلي " . وطرح من هذه الأسس استغلال طاقاتنا الاقتصادية, والأخذ باساليب التقنية الحديثة, والاهتمام بالتعليم على أوسع نطاق، والعمل الجاد على زيادة الإنتاج ... الخ .

 وكانت وجهة نظرى أن أهم عناصر النهضة والتقدم هو الإنسان الآمن الحر, أي الإنسان الذى يتمتع بحقوقه الآدمية فى الحياة حرا.. مكرما .. آمنا على نفسه .

 إن الحيوانات العليا لاتنجب وهى أسيرة فى الأقفاص , أو مساحة محدودة مسورة من الأرض , وإذا انجبت لا يكون الناتج فى مستوى الحيوان الحر الطليق . وهى حقيقة يدركها أبناء السواحل من أمثالنا , فطعم طائر السمَّان البري ألذ بكثير من طعم السمان المربَّى فى المزارع , مع وفرة طعامه وشرابه . والوصف صحيح أيضا فى سمك البحر والبحيرة والنهرمن ناحية وسمك المزارع الصناعية من ناحية أخرى.

ومن الحقائق التى لاتُدفع " أن المهمة الكبرى للإسلام هى أنه جاء للتحرير " :

-          تحرير الإنسان من عبادة غير الله إلى عبادة الواحد العادل القهار .

-          وتحريره من الموبقات والأغراض الدنيا من طمع وحقد وأنانية .

-          وتحريره من الجهل والنزوع إلى الشهوة والتخريب .

أى تحقيق الحرية بأوسع معانيها على مستوى العيش والمعايشة ، بالنسبة للإنسان , بل بالنسبة للحيوان أيضا . وصدق عمر بن الخطاب حينما قال كلمته التارخية الخالدة : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟؟!! .

 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق – " عذبت امرأة فى هرة حبستها ، فلا هى أطعمتها ، ولا هى تركتها تأكل من خشاش ( حشرات ) الأرض ".

 وينقل لنا التاريخ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يزحف بجيش المسلمين من المدينة إلى مكة لفتحها رأى (كلبة) تُرضع أولادها، فخشى أن يَسحقها الزاحفون دون أن يشعروا، فأمر "جعيل بن سراقة" أن يقوم حذاءها ؛ حتى لا يعْـرِض لها أولأولادها أحد من الجيش ، وأمر المسلمين أن يدخلوا مكة بروح الموادعة والرحمة والمسالمة بلا قتال .

**********

 والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.

 وبهذا المفهوم الشامل للعقل، تحريرًا له من الجمود والتوقف والتخلف عن التفاعل الحي مع ما يرى من مظاهر الكون والحياة، دعا الإسلام إلى النظر والتفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون، ولا يتأملون خلق الله، ولا يعملون عقولهم خلوصًا إلى اليقين (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)) [سورة الذاريات].. (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الروم: 8].

 وفي عشرات من الآيات القرآنية، بل مئات منها تتكرر كلمة "العقل" وما ارتبط بها من ألفاظ "الفقه" و"العلم" و"التفكير" على النحو الآتي:

أ ـ "عقل" ومشتقاتها (عقلوه ـ تعقلون ـ تعقل .. الخ) ذكرت 48 مرة.

ب ـ "علم" ومشتقاتها (علم ـ يعلم ـ يعلمون .. الخ) ذكرت 866 مرة.

جـ ـ "فقه" ومشتقاتها (تفقهون ـ تفقه ـ يفقهوا ـ يفقهوه .. الخ) ذكرت 20 مرة.

د ـ "فكر" ومشتقاتها (فكر ـ تتفكروا ـ يتفكرون ... الخ) ذكرت 87 مرة.

هـ ـ "وعي" ومشتقاتها (تعيها ـ أوعى ـ واعية ... الخ) ذكرت 4 مرات.

 ومجموع هذه المواد التي ذكرتها 1043 (ثلاث وأربعون وألف) لفظة، وكلها تدور على تقدير القرآن للعقل والنظر والتفكير. وهذه المواد التي عرضنا لها هي المواد المباشرة، وهناك مئات من الألفاظ تدور حول العقل والتفكير بطريقة غير مباشرة لم نعرض لها.

 والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".

**********

 والإنسان المكبل بالشعور بالخوف المهدد فى دينه وعرضه ورزقه لاينتج ، واذا انتج فلن يأتى إنتاجه على مستوى طيب, وهنا تظهر اللامبالاة والسلبية والشعور بالإحباط ؛ فحكام من الطواغيت مشغولون عنه بذواتهم , والتمسك بكراسيهم , والتمكين لأنفسهم ولحوارييهم وأسرهم وأبنائهم . فلا عجب إذن إذا جاءت الإحصائيات العالمية تؤكد أن متوسط إنتاج العامل المصري فى عهد الميمونة لايزيد على 28 دقيقة فى اليوم , ولم لا ؟ وقد رأينا كيف يجند الكبار جدا العمال بالآلاف لمنح أصواتهم عدة مرات ببطاقات مزورة قد تصل إلى ست بطاقات للفرد , وذلك طبعا لصالح مرشح الحكومة , وكذلك للخروج للاستقبالات , وحضور مظاهرات بالروح بالدم ..

 وأذكر فى هذا السياق ما قرأته فى أحد الكتب عن "ماوتسى تونج" أنه بعد وفاته قررت الحكومة الصينية إعلان الحداد بتوقف العمل فى كل انحاء الصين لمدة أربع دقائق.... نعم أربع دقائق فقط , بعدها نشر أن هذه الدقائق الأربع تحقق خسارة قدرها 120 مليون دولار للاقتصاد الصينى .

لقد خلق الله الانسان وكرمه وسخر له ما فى الارض جميعا وجعل حياته متوقفة على تحقيق أمرين :

الأول : إشباع الحاجات المادية من طعام وشراب وملبس ومسكن .

والثانى: إشباع الحاجات النفسية كالشعور بالطمأنينة والأمان والاستقرار والسلام .

 وهذا ماعبرت عنه سورة من أقصر السور المكية وهى سورة قريش يقول تعالى " لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" .

والنظر المتأني في هذه السورة يقودنا إلى تبين الحقائق الاتية :

1-     أن المذكورات فيها جاءت على سبيل التمثيل لا الحصر , فذكر الطعام جاء تمثيلا للحاجات المادية , وذكر الأمان والشعور بالطمأنينة جاء تمثيلا للحاجات النفسية ؛لأن هناك آيات أخرى ذكرت نعما متعددة كالماء والزراعة والبحر وسيلة للتنقل ومصدرا للطعام والحلي .

2-     أن الآيات ربطت بين تحقيق هذه الحاجات وبين العمل والسعى والتنقل وذلك على سبيل الإشارة إلى رحلة الشتاء والصيف

3-     أن الآيات ربطت هاتين النعمتين المادية والنفسية بقيمة عليا هى العبادة .. عبادة الله دون سواه , ويستأنس لهذه القيمة بان الله سبحانه وتعالى قد جعل البيت مثابة وأمنا .

 ومن ثم يكون العدوان على الإنسان بحرمانه من حقوقه الطبيعية فى الحياة... المادي منها والنفسي يعد عدوانا على الدين والوطن , وحكما على الشعب بالتخلف والتوقف , بل عدوانا على السنن الكونية وطبيعة الأشياء .

 إنها دعوة لحكامنا بان يشعروا المواطن بأنه يتمتع بالآدمية , وحق المواطنة فى ظلال الشورى والعدل والديمقراطية .