لا حرية ولا حمرية في الحمرية

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

الحمرية: ميناء إماراتي صغير ولد في التسعينيات من رحم العمليات التجارية المشبوهة, وترعرع خارج مياه المنافذ البحرية الشرعية, فتحددت فعالياته اليومية في التعامل الحصري مع السفن الخشبية (اللنجات), والبواخر الساحلية المتهالكة, والقطع البحرية المخصصة لنقل البضائع الفاسدة والمهربة والمرفوضة والمغشوشة, ونقل المعدات المحطمة, والعجلات المستهلكة, وبعض المواد الغذائية التالفة والرديئة, والمشروبات الكحولية المرسلة إلى الحانات المغلقة بالشمع الأحمر في البلدان القريبة التي استبدلت المسكرات بالمخدرات. .

ارتبط الحبل السري لميناء الحمرية في القرن الماضي بالأنشطة الرسمية المكرسة لتهريب المنتوجات النفطية العراقية, بذريعة كسر قيود الحصار المفروض على منافذنا البحرية, فكانت صهاريج (الحمرية) هي المتنفس الذي تحررت من خلاله عوائد الأرصدة الكبيرة في حسابات أصحاب الكوبونات النفطية, وهي المحطة التي تكفلت بعد عام 2003  بغسيل الأموال القذرة والمسروقة والمهربة والمحولة والمبللة, وهي المرفأ الذي تعهد باستلام سبائك القابلوات العراقية المذابة في أفران التخريب. .

في التسعينيات كانت قوافل الناقلات الساحلية تنساب في حركتها الدؤوبة بين أرصفة ميناء (المفتية) العراقي ومنصات ميناء (الحمرية) الإماراتي, في رحلات مكوكية تجري كأفواج النمل الأسود, بعلم الجهات المُحاصَرة (بفتح الصاد), والجهات المُحاصِرة (بكسر الصاد), وبعلم الجهات الإيرانية المتسترة, التي كانت تستوفي خمسين دولارا عن كل طن متري من النفط المهرب, حتى تجيز مرور الناقلات عبر مسارات خور موسى, فخور الديلم, فجزيرة (خارك), فرأس المطاف, لتفرغ حمولتها في الحمرية, ثم تعود أدراجها ثانية على المسار نفسه. .

في تلك الأيام كان مدخل شط العرب يعج بالناقلات المترددة على ميناء أبو فلوس, الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى ميناء نفطي مجهز بخطوط الأنابيب والمعدات اللازمة لضخ النفط الأسود, وزيت الغاز. وكانت الحمرية هي الطرف الآخر المجهز بالصهاريج والمعدات لاستلام الشحنات المُهربة رسميا عبر المسالك البحرية المعلنة بين البصرة والإمارات, بما يسمى آنذاك التهريب الرسمي المنظم, بمعنى إن (الحمرية) أكملت مرحلة رضاعتها من أثداء (أم الرصاص), وتلقت الرعاية في أحضان ميناء (أبو الفلوس) حتى اشتد عودها, وامتلأت جيوبها بفلوسه, لكنها كانت ولا تزال من أشد الموانئ قسوة في التعامل الاحترازي الحذر مع الطواقم العراقية, وربما كان لتوجيهات إدارة شرطة دبي الأثر الكبير في فرض العزلة على العراقيين العاملين على السفن المترددة على الحمرية, حتى بات من حق السريلانكي والباكستاني والهندي والإيراني والصومالي والفلبيني التمتع بحرية الخروج من الميناء, والتسوق في المدينة, والعودة ثانية إلى الميناء, من دون أي عقبات أو عراقيل, ومن دون اعتراض من أحد, باستثناء الطواقم العراقية التي وقع عليها الحظر لأسباب لا يعلم بها إلا الحاقدون على العراق وأهله. .

ظل ميناء الحمرية حتى يومنا هذا طرفا رئيسا في ترويج المعاملات التجارية المريبة والغامضة, ولن تتحسن صورته مهما توسعت مشاريع التحديث والتطوير, فمن شب على شيء شاب عليه. وسيبقى هو النافذة الخفية المخصصة للتبادل التجاري غير الشرعي في حوض الخليج العربي. .

فلا حرية للعراقيين في الحمرية, ولا حمرية في هذا الميناء الذي تسللت إليه اسماك القرش بكل أنواعها, فالحمرية في العراق اسم لطيف لسمكة جميلة اختارت العيش في الاهوار والجداول المتدفقة بالمياه العذبة, بين أعواد القصب والبردي, وبجوار اسماك الشبوط والقطان والبُني, ويتعذر عليها العيش في المياه المالحة المشبعة بالنفايات البلاستيكية والملوثات النفطية, التي جمعت منها سلطة دبي في يوم واحد ما يقارب (98) طنا من نفايات ميناء الحمرية وحده. .

وظلت (الحمرية) في العراق نعمة من نعم الفردوس الجنوبي المقدس, لكنها في الإمارات صارت نقمة على العراقيين الوافدين إليها عن طريق البحر. .

الملفت للنظر في الموانئ الخليجية إنها فتحت بواباتها على مصراعيها للفرقاطات والغواصات والمدمرات وحاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية التي جاءت من أقصى الأرض لضرب العراق, لكنها أوصدت أبوابها كلها بوجه العراقيين القادمين إليها على ظهور السفن التجارية التي حملت معها الخير والمحبة, ومازالت الموانئ الخليجية تتنافس فيما بينها لاستقطاب واستقبال الأعداد الهائلة من السفن الحربية الأجنبية, بينما نراها تتعمد الخشونة في التعامل الوقح مع العراقيين العاملين على السفن التجارية الصغيرة, على الرغم من بساطتهم وضآلة أعدادهم. .