وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه :((لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا من الطعام إلا الدقل وحسك السعدان ، حتى تقرّحت أشداقنا ، ولقد شققت نمرة (عباءة) بيني وبين سعد ، وها أنذا أنظر فلا أرى منا إلا أمير قطر أو مصر)).
استحضرت هذا الأثر وأنا أتابع تداعيات فوز الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر ، وأرى المظاهر التالية في أول أسبوع رئاسة له:
1 ــ دخول الدكتور مرسي إلى قصر الجمهورية رئيسا ، وجلوسه على الكرسي الذي كان يجلس عليه مبارك بجبروته وعنجهيته وفرعنته.
2 ــ التحية العسكرية من طرف المشير طنطاوي والفريق عنان وغيرهما من القيادات العسكرية والشرطية للرئيس مرسي ، وكذلك لقاءه مع المجلس الأعلى للشرطة .
3 ــ إطلاق عدد من الطلقات المدفعية ، احتفاء بالرئيس مرسي عند دخوله إلى جامعة القاهرة لإلقاء خطابه.
4 ــ إشراف الرئيس مرسي على تخرج الدفعات العسكرية وتقليده الرتب للطلبة المتخرجين بصفته التي ذكرت وهي القائد الأعلى للقوات المسلحة.
5 ــ لقاء الرئيس مرسي بالمحافظين ، وتصريحات بعضهم : لقد أوصانا السيد الرئيس بكذا .. ، وأمرنا السيد الرئيس بكذا .. وطالبنا السيد الرئيس برفع تقارير عن كذا .. وهكذا ...
6 ــ استقبال الرئيس مرسي لأسر الشهداء وقادة الأحزاب والإعلاميين والعلماء ورجال الكنيسة ورؤساء الجامعات وغيرهم من مسؤولي الدولة المدنيين والعسكريين ، وكذا بعض وزراء وسفراء الدول الأجنبية عربية وعالمية في القصر الجمهوري.
7 ــ حديث بعض عرّابي النظام السابق من إعلاميين ومثقفين وسياسيين وعسكريين عن السيد الرئيس الدكتور محمد مرسي ، رغم حملاتهم المستمرة عليه وعلى مشروعه.
8 ــ تهاني رؤساء وزعماء الدول الأجنبية العربية والعالمية باسم الدكتور محمد مرسي بمناسبة فوزه بالرئاسة.
9 ــ خطاب الرئيس محمد مرسي في ميدان التحرير والهتافات والتكبيرات والتفاعل الكبير معه ، والاحتفالات التي عمّت المحافظات والقرى والكفور والنجوع بفوزه بعد إعلان النتيجة.
10 ــ تشنيف آذاننا المتكرر بعبارة : الدكتور محمد مرسي رئيس جمهورية مصر العربية ، كأول رئيس دولة منتخب من الإخوان المسلمون منذ تأسيس الجماعة سنة 1928 م.
جالت بخاطري وأمام ناظري كل هذه المظاهر ، التي تابعتها كما تابعها غيري ، وأنا أتلو قول الله عز وجل :((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ))(القصص5).
حيث رأيت من خلال عشارية المظاهر التي ذكرتها قبل قليل ــ وهناك من المؤكد غيرها ــ التجسيد العملي لهذه الآية الكريمة ، فمن كان يدور بخلده أو يظن أن الدكتور محمد مرسي الذي كان يلاحقه النظام السابق بظلمه وجبروته وتضييقه ، وتردده باستمرار على سجونه ، ومنعه بشكل دائم من السفر خارج البلاد ، حيث كان اسمه في قائمة الممنوعين من السفر لسنوات ، يصبح هو رأس النظام ، وهو الرجل الأول في مصر وبإرادة الشعب المصري بعد إرادة الله عز وجل ، كما تصبح جماعة الإخوان المسلمون تملك الأغلبية في كل مؤسسات الدولة المصرية المنتخبة من الرئاسة إلى البرلمان إلى الشورى إلى المحليات بإذن الله ، بعد الاضطهاد والسجون والحرب الشرسة المعلنة ضدها من طرف النظام السابق في كل الميادين والمجالات ، ولغة الاستهتار والاستهزاء التي كانت تصدع آذاننا من أقطاب النظام وعلى رأسهم مبارك وابنيه وأركان نظامه ، ولا زلنا نستحضر عبارة : خلّيهم يتسلّوا الشهيرة.
ويكفي أن تلاحقها صفة المحضورة في كل شؤونها ، فإذا بالحال يتغير ، ويختفي الكثيرون من الذين كانوا ملأ السمع والبصر ، بحيث غيّب بعضهم السجن والمحاكمات والهجرة أو بالأحرى الفرار وهكذا ، ويصبح مساجين الرأي والملاحقين السابقين ، الذين حوربوا في آرائهم وأرزاقهم ووظائفهم وعائلاتهم ، لا ذنب لهم إلا أن قالوا ربنا الله ، وعارضوا الظلم والاستبداد والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان المصري والعمالة لأعداء الأمة والمتآمرين عليها ، يصبح هؤلاء المستضعفون هم العملة الرابحة والمربحة في الساحة ، وهم الذين يتصدرون المشهد السياسي للبلد.
صحيح أن للثورة والثوار وتضحياتهم ودماء الشهداء فضلا كبيرا في هذا التحوّل العظيم الذي شهدته وتشهده مصر ، ولكن قبل ذلك وأثناءه وبعده يعود الفضل في الأول والأخير إلى الله عز وجل الذي وفق هؤلاء الثوار ، وحفظ هذه الثورة ، وكتب لها النجاح رغم كل المؤامرات ، لأن إرادة الشعوب من إرادة الله عز وجل.
لقد من الله على المستضعفين وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين ، لمّا صبروا وصابروا ورابطوا وناضلوا بصدق وإخلاص ، وحاربوا اليأس والقنوط ، رغم كل ما أحاط بهم من مسبباتهما لسنين طوال ، وأحسنوا الإعداد وجهزوا العدة على كل المستويات ، فما اندثروا ولا اندحروا ولا انكسروا ، فإذا بتضحيات 84 سنة وما صاحبها من شهداء ودماء وعرق وجهد وعمل متواصل وإنجازات متتالية ، بحيث حافظوا على الراية مرفوعة خفاقة رغم كل ذلك ، وأبقوا المشروع حيا متحركا طول كل هذه السنين.
لقد يئس وانعزل وانسحب وغيّر الوجهة الكثيرون ، وأصاب التثبيط همم الكثيرين ، وتكسّرت طموحات الكثيرين ، ونزل سقف طموحهم إلى الصفر وتحته ، وتوقفت عقارب عمل ونشاط الكثيرين ، وانسدّ أفق الكثيرين ، إلى الحد الذي جعل بعضهم يدعو الجماعة إلى :(ترك العمل السياسي بكل مفرداته ، والتوقف عن ممارسة الحقوق السياسية ، والتوجه نحو التربية والعمل الاجتماعي) ، و:(عدم جدوى الصراع السياسي بين الإخوان والنظام السياسي المصري) ، و:(أن الصراع مع الأنظمة يذهب بالموجود ولا يأتي بالمفقود ) ، حتى بلغ بالبعض إلى أن يكتب :(الحركة الإسلامية ما بعد السياسة) ، كما طالبها البعض الآخر بهدنة والابتعاد عن إكراهات المواجهة السلمية مع النظام لمدة 20 سنة ، وغيرها من الاقتراحات، لكن الجماعة استمرت في طريقها ومنهجها وعملها وحضورها الفاعل السياسي وغير السياسي ، ولم تثبطها تلك الدعوات والمطالبات ــ رغم حسن نوايا أصحابها وإخلاصهم ــ ، عن اختراق جدار الاستبداد ، وتؤسس بتراكم تجربتها وتضحياتها ، للثورة التي أسقطت صروح النظام البائد ورموزه ، رغم بقاء بعض فلوله تقاوم الاندثار.
وهو درس عملي في العمل التغييري: دعوي وتربوي وسياسي وحضاري واجتماعي ، يغني عن آلاف الدروس النظرية ، فما على الدعاة وناشدي الإصلاح والتغيير بصدق وإخلاص وجد ، إلا أن يطلّقوا اليأس ويستصحبوا الأمل ، ويستمرّوا في بذل جهدهم وجهادهم ، مهما ضاقت بهم السبل وأظلمت الدروب وادلهمت الخطوب ، ومهما واجههم من ظلم وعنت وألم ، وأن لا يستطيلوا الطريق ، فيضعف مشيهم وتبرد هممهم وتنطفئ فاعليتهم ويخبو توهّجهم ، فإن فشلت خطة جددوا غيرها ، وإن تعثرت خطوة خطوا غيرها ، وإن أخطأ خيار راجعوه ونحو خيارا آخر وهكذا ، وما عليهم إلا أن يستحضروا أمامهم هذه اللوحة الواقعية العملية الجميلة والمعبّرة(اللوحة الإخوانية المصرية) ، وما تحمله من جمال المثابرة والصبر والتضحية والأمل والثقة بالنفس والعمل وحسن الإعداد ، المضفي إلى النصر والتمكين والتتويج والمن الإلهي والكرم الرباني .
فإن ينتقل السجين من ظلمات السجن الذي كان في زنازينه قبل سنة ونصف فقط عشية تفجّر الثورة المصرية ، إلى القصر الرئاسي رئيسا منتخبا شعبيا ، ونرى كل المظاهر التي ذكرتها في بداية الموضوع ، فإن ذلك هو استنساخ للمشهد الذي ذكره الصحابي الجليل عتبة بن غزوان رضي الله في الأثر الذي قدمنا به المقال ، هذا المشهد الواقعي الحقيقي والعملي تكرر مرارا على مدار تاريخ هذه الأمة ، ولا يزال يتكرر وقابل للتكرار والاستنساخ في كل زمان ومكان ، إذا روعيت شروطه ووفرت أسبابه وأعدّت وسائله ، فهو من سنن الله عز وجل في هذه الدنيا : :((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ))(القصص5).