«الفلافل» وكرامات «الأولياء»
د. محمد عناد سليمان
تشرأبُّ النَّفس في غمرة الأحداث ومجرياتها، وتسرحُ بعيدًا بحثًا عن (قرص الفلافل)، ليس لأنَّه طعام (الدَّراويش) كما يظنُّ ثلَّة من النَّاس، ويعيشون هذا الظَّنَّ ردْحًا من الزَّمن؛ بل لأنَّه ذو صلة وثيقة بطريق (السَّالكين)، و(المريدين)، الباحثين عن تجلِّيات الله، ونفحاته الربَّانيَّة في أرضه، وبين عباده الصَّالحين.
لقد كنَّا في بداية طريق التَّحصيل العلميَّ الدِّينيّ والشَّرعيّ نرى في أقوال (المشايخ) و(العلماء) الصِّحَّة والحقيقة المطلقة، خاصَّة فيمن يسلك طريق (الصُّوفيَّة)، ولسنا في معرض الحديث عنها، المهم (شو بدَّك بالطَّويلة)، طبعا ليس المقصود (الحمراء الطَّويلة)، أو (القصيرة) التي كانت تتربَّع على عروش النَّشوة لدى (المدخِّنين) حيث أصبح الحصول عليها حلمًا في ظلِّ الظُّروف الرَّاهنة، وأصبحوا يقتنعون بشيء من أوراق الشَّجر ملفوفًا ببقايا العيدان المتناثرة هنا وهناك.
المهمّ كنَّا ننتظرُ على أحرِّ من الجمر مجيء اليوم الموعود، وشاهد ومشهود، يوم (الخميس) المبجَّل، ذلك اليوم (الأغرّ) من أيَّام الأسبوع، فنحن على موعد مع جلسة علميَّة، ودرس مميَّز، ننهل فيه من نفحات الإيمان التي تتنزَّل على الشَّيخ، لعلَّ الله (يلفحنا) بواحدة منها، (بعرف أنكم عم تستنوا الفلافل، وشو علاقتها بالموضوع، وهون حطنا الجمَّال)، ولا علاقة لـ(الجمَّال) بما يفعله الممثل السُّوريّ في مؤتمر (القاهرة)؛ فهو (جمال سليمان)، أمَّا (الجمَّال) فهو من يرعى تربية (الجمال)، بكسر الجيم، ويقيم شؤونها، إلا إن كان السيَّد (جمال) يرى في الشَّعب السُّوريّ قطيعًا من (الجِمال) فلا بأس أن تنعقد (الرَّابطة) بينهما، (ضيَّعنا الطَّريق ووصلنا للرَّابطة الشَّريفة في الطَّريقة النَّقشْبنديَّة).
المهم (يا سادة يا كرام) مع نشوة انتظار درس (الخميس) كانت نشوة أخرى تتعالج والنَّشوةَ الأولى وهي الحصول على (سندويشة فلافل) بعد انتهاء الدَّرس في مطعم قريب، سواء أكانت (أم العشر ليرات)، أو (أم الخمس ليرات) بعد حذف وإعدام (المخلَّل)، وشيء من (السَّلطة)، أو(اللَّبن العيران)، فالحصول على مبلغ مثل هذا في ذلك الوقت مع الفقر الشَّديد أشبه بالمعجزة.
و(على سيرة المعجزة) كانت تتحقَّق ونراها بأمِّ أعيننا، فنحن لا نملك أجرة الطَّريق من أجل الذَّهاب إلى الدَّرس، أو الحصول على ثمن هذه (السَّندويشة)، لكنَّ ذلك لم يكن صعبًا، فيكفي أن تؤمن بقول الشَّيخ واستشهاده بالحديث النَّبوي (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) فإن كان الطَّريق سالكًا إلى (الجنَّة) فإنَّه في (الأرض) أسهل وأيسر، فما إن يتقرَّر في النَّفس نيَّة حضور المجلس حتى نجد على قارعة الطَّريق (25) ليرة سوريَّة، وهي بلا شكَّ تكفي أجرة الطَّريق مع ثمن (السَّندويشة) المنتظرة.
وسواء أكان العثور على هذه الخمسة والعشرين صدفةً، أم من وضْع أحد الأخوة الأفاضل الذي عرَّفنا هذه الطَّريق (الصُّوفيَّة) ليثبت في النَّفس صحَّة كرامة (الشِّيخ)، وصدق طريقته، فقد تحقَّقت المعجزة، وسننتصر بتحصيل (النَّشوتين).
ولا شكَّ أنَّ شدَّة الحرص النَّاتج عن الفقر الشَّديد من جهة، أو الخوف من عدم حدوث المعجزة في الأسبوع القادم، فقد يتحوَّل (المرشد) إلى (مريد) جديد غيرك، فتنقطع (الكرامة) وينقطع معها (الطَّريق السَّالك) إلى (الجنَّة) يجعلنا نبحث عن وسيلة تحفظ لنا ماء الوجه المتمثِّل بهذه الخمسة والعشرين، علمًا أن المعجزة لم تتجاوزها، فلم يحدث مرَّة أن وجدتُ خمسين ليرة مثلا، أو مئة ليرة؛ لأنَّه إن حدث فقد أصبح شيخ طريقة، وعندها نتصارع على كثرة (المريدين)، وأصبح منافسًا قويًّا لـ(لشَّيخ صاحب الطَّريقة وآخر السُّلالة).
ومن أهمِّ هذه الوسائل الوقوف لفترة أطول في موقف (الباص)، أو (السَّرفيس)، و(البصبصة)، أو (البحلقة) في (الرُّكَّاب)، بحثًا عن أحدٍ نعرفه من (المريدين) الميسوري الحال، لعلَّه يدفع أجرة المواصلات عنِّي، فإنَّ المعتقد السَّائد أنَّ كلَّ (الرُّكَّاب) في هذا الوقت تحديدًا من مريدي (الشِّيخ)، وذاهب لحضور الدَّرْس المبجَّل، وغالبًا ما يحدث ذلك، فنحقِّق انتصارًا مضاعفًا بتوفير درس إضافي في حال تعطَّل حدوث المعجزة، أو اندثر (الوحي) الملازم لها.
وفي حقيقة الأمر أنَّ الانتصار المزعوم ليس إلا واجهة الحفاظ على الآخر وهو الحصول على (سندويشة أم العشر ليرات المزيَّنة بالمخلَّل واللبن وقطع البندورة والخيار، وعندها سيكون الفلافل من نوع قلب الحبّ الذي يذكِّرنا بعشيقات فترة المراهقة).
(صحيح والدَّرس وين صار؟)، نعم نبدأ بحضور الدَّرس الذي يبدأ بـ(الذِّكر) على (الطَّريقة النَّقشبنديَّة) وما إن تنتهي (السُّلالة) حتى ننتقل إلى الجو الحقيقيّ للسَّماع، ولا ترتاح اليدُ من الكتابة إلا عند موقف مضحِك يذكره الشَّيخ متخلِّلا (القصص) و(التّفاسير) و(الأحاديث)، ولا يذهبنَّ ذهن بعض السَّامعين إلى (التَّخليل من المخلَّل) فذاك في (الفلافل) وهذا في (اللِّحية).
وكانت (المعدة) هي الحكم الفيصل في هذا الحضور، وليس العقل أو القلب، فهي خاوية على عروشها منذ مساء الأمس على الفراش، تحلمُ بـ(سندويشة الفلافل)، وتنتظر تحقيق (المعجزة)، وها هي تتربَّص بنا الخروج من أجل أخذ (الدَّور) أمام المطعم، فلم أكن الوحيد الباحث ن هذه النّشوة (الفلافليَّة)؛ بل تكاد رجلاي تضربان في (قفاي) من أجل الحصول على دور متقدِّم في (الطَّابور) وما إن يتنصَّف الدَّرس، أو يتربَّع، أي يصبح ربعه، وليس يتربَّع على عرش القلب طبعًا، حتى تعطي (المعدة) إنذارها الذي يشبه أصوات سيارات الإسعاف في الحالة (السُّوريّة) إيذانًا بانتهاء الدَّرس، والهرولة إلى (قلب الحبّ) الملفوف برغيف ساخن قد خرج توًّا من (التَّنُّور) وتتراشق على جنباته خيوط (اللَّبن العيران) مع ضحكة بسيطة تتبادلها (شرحات البندورة)، و(أقزام الخيار)، وهي النَّشوة الأبديَّة التي أصبحت حلمًا لدى كثير من العرب السُّوريِّين وغيرهم في بلاد الشَّتات، وما زال بعض (العلماء) و(الشِّيوخ) يحدِّثنا في لحظات سرمديَّة نقضيها في البحث عن لقمة العيش يحدِّثنا عن حكم (الزَّاني)، وإقامة (الحدِّ) على (السَّارق)، أو (التَّخليل) في صقيع دائم من قسوة القلب وانعدام قطرة ماء الحياة.