مقهى أبو زهير تتسلل إلى الذاكرة بعد ان طواها النسيان
مقهى أبو زهير تتسلل إلى الذاكرة
بعد ان طواها النسيان
نايف عبوش
تختزن الذاكرة الكثير من الصور و الذكريات الوامضة،لمعالم من مدينة الموصل، كنا نرتادها في ستينات القرن الماضي، يوم كنا طلابا في الاعدادية،ثم انتقلنا منها الى جامعة الموصل،عندما كانت في طور التأسيس بمجمع المجموعة الثقافية.وكلما تقادم الزمن،وتوالت الايام ،تندفع تلك الذكريات الى اعماق دهاليز الذاكرة،لتنزاح عن واجهة الاستذكار شيئا فشيئا.ولأنها ظلت شفاهية،فقد اوشكت الذاكرة عند استرجاع صورها،ان تنكر سحناتها رغم الفتها لملامحها،بسبب انهاك الذاكرة،وتغير المعالم واندثار البعض منها،بتوالي السنين،مثلما حصل لمقهى ابو زهير التي زالت من الوجود،يوم تم ردمها مع البنايات التي كانت المقهى جزءا منها،عندما اعادت البلدية النظر بمعمار مركز المدينة،في سبعينات القرن الماضي،لإيجاد فضاءات،وساحة خضراء،فاندثرت معالم المقهى بالكامل،وطواها النسيان.
تقع مقهى ابو زهير في داخل زقاق كراج تاكسيات حمام العليل والقيارة،في مركز باب الطوب،قبالة سوق الاربعاء حاليا.ولم تكن تلك المقهى المتواضعة،مقهى صنف،او مقهى منطقة.وإنما كانت مقهى شعبية عامة،يرتادها في الغالب الأعم،اهل اطراف جنوب الموصل،من الطلبة،والعسكر،والشرطة،والكسبة،ومن ينزل الى المركز من الريف للأستطباب،او للتسوق الموسمي،بين الفينة والأخرى.لذلك فان هذه المقهى،لم تكن مقهى مختصة لتوفير اجواء امتاعية للمرتادين،للهرب من هموم الحياة،شانها شان نظيراتها المقاهي المخصصة لهذا الغرض.لكنها مع ذلك،كانت محطة انتظار وقتية،لا تعدم تبادل الدردشات الثقافية،والسياسية،والاجتماعية السريعة،بين المرتادين كونهم جزء من حركة المجتمع،في حين ان البعض منهم،كان يقضي وقت انتظاره بقراءة جريدة او مجلة،او يتصفح بعض كتبه المدرسية،فيشد انظار الآخرين اليه.
كان المقهى يكتض بالمرتادين في نهاية كل اسبوع،وعند العطل،والأعياد،فترى في المقهى الطالب، والجندي،والشرطي، والعامل،فهذا جالس على حصيرة التخت الخشبي،وذاك واقف في الساحة،والآخر متكيء على الجدار،واؤلئك منزويين في الزقاق بحديث جانبي،فالكل بانتظار دور مغادرة التاكسي التي ستنطلق الى الاطراف،ليأخذ مكانه فيها بالنزول الى اهله،في حين يعود الى مقر عمله منهم،من كان مرتبطا بواجب،يحول دون نزوله لأهله،بعد ان يحمل الحضور تحياته للأهل ليطمئنوا عليه،وبوجد تزدحم صورهم في مخياله الحالم،كأنه في طريقه اليهم.
وعلى الرغم من الازدحام الذي يحصل في المقهى،وفي ساحة الكراج الضيقة المكملة للمقهى،الا ان صاحب المقهى الجايجي ابو زهير،على كبر سنه، كان يتوقد نشاطا،ويتدفق دعابة مع الجميع.فيقدم الشاي المخدر بالقواري الخزفية على الفحم،والمعطر بالهيل لزبائنه،بأعلى مقاييس المهنة،دون ان ينسى طاسة الماء من الحب الفخاري،ليسقي العطشى منهم،ويكب ما فضل منه فيها جانبا خارج باب المقهى،من فرط حرصه على نظافة المكان.
ويتمتع الجايجي ابو زهير بذاكرة طرية،لا تخطيء معلومة.فبمجرد ان يلمح المرتاد لأول مرة في مقهاه،تترسخ ملامح صورته في ذاكرته.فتجده يعرف الجميع بيقين تام،ويرحب بمقدمهم بأسمائهم الشخصية،بل ويتذكر متى ارتادوا المقهى،ومتى غادروها،والى اين.فكان بهذه الفراسة النادرة،سجل ذاكرة الجميع،ودليل الحضور،وتقويم حركة الكراج اليومية.واذا ما خانت الذاكرة احدهم بمعلومة يوما ما،او نسي وديعته،او انكر سحنة شخص، فما عليه إلا الاستعانة بذاكرة ابو زهير،التي لا تكل ابدا من كثرة سؤال،ولا تنسى،ليجد عندها على الفور،الخبر اليقين.
كان صديقا للجميع،وأمينا لا تضيع في مقهاه لقطة،ولا تختفي عنده وديعة.يدل من يستشيره من زبائنه،على الباعة الثقاة،ويعرف المرتادين لأول مرة بأحوال السوق،وكثيرا ما كنا نترك حقائبنا عنده وديعة،ونستأمنه على متسوقاتنا،عندما تطرأ حاجة عاجلة، تستوجب مغادرة المقهى وباحة الكراج لبعض الوقت،دون ان يتذمر او يتأفف.
هكذا كانت المهنة نبيلة،وهكذا كان صاحب المهنة نبيلا وفاضلا،والجايجي ابو زهير خير مثال على ذلك،فقد احتل مكانة متميزة في ذاكرة رواد مقهاه من ذلك الجيل،والأحياء منهم ما فتئوا يطرونه بالخير كلما استذكروه.فله الصحة والتحية ان كان حيا،وله الرحمة والغفران ان كان قد التحق بالرفيق الاعلى.