العقد بين الحاكم والمحكوم
العقد بين الحاكم والمحكوم
د. خالد الطويل/كندا
من المعلوم بأن كل عقد بين طرفين لا بد أن يتم على أساس مشروع اتفاق يُحدد بموجبه إلتزامات كل طرف نحو الأخر. وهذا ينسحب على عقد الزواج الشرعي, حيث أنه يعتبر مشروع إتفاق بين زوجين يجري العقد على أساسه، ويلتزم كل منهما تجاه الآخر بالحقوق التي يقرها هذا المشروع. ولما كان هذا العقد مبني على أساس الحب والرعاية والحماية, وانطلاقاً من الحديث النبوي "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته", كان لابد من الزوج تطيبيق ما ينص عليه جوهر العقد. فإذا كان الزوج كارهاً ولا مبالياً وغير قادرٍ على حماية أفراد أسرته بل ويؤذيهم جسدياً, فقدْ فقدَ العقد الأساس الذي ُشرع لأجله, وتحول من عامل تنظيم لإستقرار الحياة الأسرية إلى غطاء ومبرر للإضطهاد والظلم وحتى القتل, فكان لابد بالضرورة من بطلان العقد واعتباره فاقداً للشرعية.
وينسحب هذا أيضاً على العلاقة بين الحاكم والمحكوم, فهو عقد مبايعة يتم بموجبه إلتزام الرعية بالطاعة طالما إلتزم الراعي بتحقيق الأمان والعدل والتطور, وبالتالي هو عقد موازنة بين طرفين. فإذا كانت الرعية مسؤولة عما يناط بها من طاعة لولي الأمر ومن مساعدة وتعاون ومؤازرة في بناء الوطن، كان لابد من الحاكم أن يقوم بإدارة شؤون الدولة وشؤون مواطنيها ومن يقيم على إقليمها الجغرافي, وأن يكون المسؤول عن تحقيق أهداف الشعب ومصالحه وحمايته والدفاع عنه من مخاطر الداخل وعدوان الخارج, وتحقيق الأمن والإستقرار مع التطور والنماء في جميع المجالات. هذا ما يُفتَرض تطبيقه بحكم الحقوق السياسية والأمنية والمصالح الإنسانية, ولكن في حال طغيان الراعي بعدم تحقيق المسؤوليات المناطة به, زالت الواجبات المفروضة على الرعية, وفسخ العقد بين الطرفين لِزاماً.
هذا مايحدث الأن في سورية, فقدْ فقدَ النظام الحاكم شرعيته, ليس فقط بالأمس القريب ولكن منذ زمن بعيد عندما جائها مغتصباً للسلطة ناشراً سياسة الرعب بين الرعية, وحول نصف الشعب لجواسيس والنصف الأخر لعبيد, ونجح في تطبيق سياسة فرق تسد, وحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال منطق الولاء للطبقة الحاكمة. فأنت مواطن صالح إذا أظهرت الولاء بالطاعة العمياء لكل ما يمت الى السلطان بصلة, أو خائن وعميل للخارج وتنال من هيبة الدولة وتضعف الشعور القومي الوطني إذا فكرت يوماً بأن ترفع صوتك عالياً وتسلط الضوء على الخطأ, أو أن تنتقد مسؤول لم يلتزم بمهامه الموكلة إليه, أو أشرت الى خلل في السياسة الداخلية ناهيك عن الخارجية. وبناءً عليه, تحولت الدولة المدنية الى دولة بوليسية بإمتياز تفتقد سيادة القانون إلا قانوناً واحداً وهو قانون الطوارىء الذي فرض منذ عام 1963 كوسيلة لفرض سيطرة الدولة على الشعب بالقهر, إضافة الى إحتكار حزب البعث للسلطة وسيطرة عائلة واحدة على مفاصل الدولة من الناحية العسكرية والأمنية والإقتصادية, والإفتقار الى العدالة الإجتماعية والمؤسساتية والسياسات التنموية. وبذلك يكون الحاكم هو أول من بادر الى خرق الإتفاق, وجعل العقد الناظم بين الراعي والرعية يصل الى مرحلة الطلاق. ولما مارس الشعب السوري أحد حقوقه الأساسية المسلوبة وهو التظاهر السلمي للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية, جند الحاكم كل إمكانياته الأمنية والعسكرية لقمع الحراك الشعبي, ولاحق الناشطين وقتل أكثر من 15000 شهيد وأعداد لا تحصى من المعتقلين الذي يمارس ضدهم كل أنواع التعذيب الممنهج, وحوَّل المواليين إما لشبيحة ميدانيين على الأرض أو لنبيحة إعلاميين على الفضائيات. ولما بلغت القلوب الحناجر, وانتشرت في كل مكان المجازر, وظن النظام أنه من جرائمه ناجٍ, وبلغ القتل والتدمير والتهجير مستويات لا يمكن لعقل بشري تصورها, وبات السلم الأهلي يدق ناقوس الخطر ليس في سورية فحسب بل في المنطقة كلها, ولما سقطت كل المبادرات الداخلية والعربية تحت أقدام النظام, طالب مابقي من الشعب السوري المجتمع الدولي بالتدخل الخارجي لكبح جماح السلطة اللاشرعية في البلاد.
عندها أطل القوميون العرب برؤوسهم يرفضون التدخل الخارجي بحجة القومية العربية والإرتهان للغرب وجلب المستعمر. نقول لهؤلاء, اذا أخذنا الموضوع من وجهة نظر دينية, فسنورد فقط حديثين في هذا الصدد "لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون على الله من أن يراق دم امرئ مسلم" و"لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" وهذا يوضح وبشكل جلي بأن أهمية وسلامة الروح البشرية مقدمة على أهمية وسلامة البلاد الجغرافية, حتى ولو كانت الكعبة بحد ذاتها, والكل يعلم مدى قداستها عند الله والمسلمين أجمع. فالبشر يمكن أن يعيد بناء الحجر وليس العكس. ولربما لا يروق هذا النوع من الكلام "للقومجيين" العرب (وبالمناسبة نذكر بأن مصطلح كلمة القومية أتى من جذر كلمة القوم, فهل نحن مع القوم ؟ أم على القوم أن يكونوا معنا؟) ولذلك نذكرهم بما ينص عليه القانون الدولي الإنساني بأن المدنيين الواقعين تحت سيطرة القوات المعادية يجب أن يعاملوا معاملة إنسانية في جميع الظروف، ودون أي تمييز ضار. ويجب حمايتهم ضد كل أشكال العنف والمعاملة المهينة بما فيها القتل والتعذيب. ويحق لهم أيضاً في حال محاكمتهم الخضوع لمحاكمة عادلة توفر لهم جميع الضمانات القضائية الأساسية. وتتّسع حماية المدنيين لتشمل الأفراد الذين يحاولون مساعدتهم لاسيما أفراد الوحدات الطبية والمنظمات الإنسانية أو هيئات الإغاثة التي توفر اللوازم الأساسية مثل الغذاء والملبس والإمدادات الطبية. ويُطلب من الأطراف المتحاربة السماح لهذه المنظمات بالوصول إلى الضحايا. وتُلزم اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول بالتحديد الأطراف المتنازعة بتسهيل عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفي حال عدم التزام الطرف المعتدي ببنود الإتفاق, وجب على الأمم المتحدة تطبيقه بإستخدام القوة تحت الفصل السابع. ففي ميثاق الأمم المتحدة, لم يعد القول مقبولاً بأن لكل دولة سيادة مطلقة, فالدول تنتهي سيادتها على أراضيها عندما تنتهك حرمة وحياة مواطنيها. أما تهمة جلب المستعمر, فلم يعد خفيٌ على أحد بأن أجندات الدول الخارجية تتحدد وفقاً لمصالحها الداخلية, وإن كانت تتستر بشعارات إنسانية, ولكن من الحنكة السياسية أيضاً استغلال تقاطع المصالح الخارجية لصالح أولويات الشعب الداخلية.
وعليه نقول بأن الحل الذي يضمن إستعادة الإنسان العربي لكرامته المفقودة وحريته المسلوبة, لا يتم فقط بأن نصون حرية الوطن من الإستعمار الخارجي, بل يجب أيضاً أن نصون حرية المواطن من أنظمة القمع والفساد والإستبداد. وأخيراً, وبالعودة الى حديثنا عن العقد الشرعي أقول: "من يستنكر أو يُخَوِن زوجة ً إستنجدت بجيرانها لكبح جِماح زوجها الذي َذبح طفليها وهَمَّ بالثالث, فهو إما رُوَيْبِضَة أو ُلكَعْ بن ُلكَعْ".