التحليل السياسي والعقد المحركة

التحليل السياسي والعقد المحركة

محمد قاسم "ابن الجزيرة "

[email protected]

المنطق يفترض أن يكون المحلل حياديا في تحليله للقضايا التي تهم البشر،الاجتماعية منها خاصة، وعلى رأسها تلك السياسية.

وإذا كان لدى المحلل-أي محلل- ميوله الخاصة، أو مواقفه الخاصة، يُظهر ذلك كرأي- وهذا حقه- .

أما التحليل عموما –و السياسي منه خصوصا،  فالمفترض انه يبنى على المعلومات والحقائق...خاصة أن التحليل في الأصل -يهدف إلى تنوير الرأي العام...!

وهنا يجب أن نفرّق بين المحلل السياسي المؤدلج- الملتزم- وبين  المحلل السياسي الحيادي"المثقف""[i] ".

 فالنوع الأول ليس محللا بالمعنى الدقيق، إنه محام ومدافع عن اتجاه محدد، فهو ليس حياديا إذا،  وإنما يمثل مصلحة جهة محددة،  فهو مهتم  بأن يوحي بصحة موقف هذه الجهة –أو الاتجاه- أو يدفع عنها التّهم الموجهة إليها ... وبذلك فإنه يمارس دور محام قلّما يكون مهتما بالحقيقة والحق، وإنما يهتم بمصلحتها –مع احتمال أن يكون الحق أحيانا إلى جانب الجهة التي يمثلها- .

أما النوع الثاني فهو محلل مثقف وحيادي –كما هو المفترض- وهمه أن يتوصل إلى إبراز الحقيقة كأهم وظيفة من وظائفه...ومن ثم تنوير المشاهدين أو المستمعين أو القراء بحسب النهج المتبع: إطلالة من التلفزيون أو الإذاعة أو المطبوع...!

هذا اليوم 31/5/2012. كان ثلاثة ممن يوصفون بالمحللين على قناة فرنسا 24 :

ماتوزوف المعقّد من أمريكا...ود.خالد عيسى المعقّد من تركيا والإسلام-او الإسلاميين- ود.محمد هنيدي المعقّد من النظام السوري ومن يدعمه.

وهناك "المعقّد" انحيازا إلى أيديولوجيا أو أنظمة -إذا جاز التعبير –وما أكثرهم في الثقافة العروبية الأيديولوجية- ودون البحث في التفاصيل، حول أسباب التعقيد هل هو قناعة، أم انحياز بسبب الارتزاق، أو الخوف ربما، أو أي شيء آخر... لا صلة له بالتفكير الحيادي والمنطق السليم...!

كان واضحا أن الثلاثة –وأمثالهم كثر كما قلنا- لا يحللون بقدر ما كانوا يعبرون عن انفعالاتهم وميولهم واتجاهات وربما مصالح يمثلونها...!

فالروسي "فاتيسلاف ماتوزوف" يبني أحكامه على مصداقية النظام-وهذا يتكرر غالبا- فهو من بقايا ثقافة الاتحاد السوفييتي المنهار، و لا يزال يعاني بعض حقد على أمريكا التي كان لها دور في انهيار الاتحاد السوفييتي،ولكنه يتجاهل حقيقة  أن سلوك السوفييت الأيديولوجي المستبد كان البيئة الخصبة لتآكل نظامه من الداخل –وبالتأكيد للعوامل الخارجية أيضا الدور الحاسم فيها، ومنها : الدور الأمريكي.وهي لعبة سياسية تبدو مشروعة في ثقافة السياسة الواقعية-سياسة المصالح-

 كما يبدو انه منتفع في شكل ما من هذا الدور والموقف..!.

أما "د.خالد عيسى" فهو عضو في هيئة التنسيق السورية لجهة ميوله لحزب العمال الكردستاني- أو ربما صلة مباشرة- ويتعامل مع  تركيا انسجاما مع سياسة هذا الحزب . فهو يرى بحسب رؤية زعيمه السيد "عبد الله أوجلان" أن معظم الكورد في سوريا مهاجرون؛ سواء أولئك الذين هاجروا مع صلاح الدين الأيوبي، أو الذين هاجروا نتيجة اضطهاد عثماني في الربع الأول من القرن العشرين.

 وبالتالي فهو يتبنى سياسة عودة الكورد المهاجرين إلى شمال كوردستان –كوردستان تركيا-. لذا فسوريا أصلا ليست موقعا هاما في سياسة هذا الحزب الذي بنى كل حيثياته على عداء تركيا في نوع من  تقاطع المصلحة بينه وبين النظام السوري –على الأقل من وجهة نظره..."[ii] "

 وكان محمد هنيدي يعبر عن شعور قومي عربي- وربما عروبي- فيه معاناة، وهو يشهد ما يجري في بلد يعتبره عربيا وشعبه عربيا ومسلما ...فهو يتعاطف مع ما يرى انها ثورة شعب يحاول النظام قمعها بمعونة من إيران وحزب الله والقوى المتحالفة مثل روسيا وفنزويلا والصين..الخ.

في تقديري ،لقد خرج المشاهدون بنتيجة غير مجدية من خلاصة التحليل –إذا جاز تسميته تحليلا-  وهذه مشكلة ثقافية في المنطقة العربية خصوصا.والشرق عموما.

وعلى الرغم من أنني لست متفقا على الكثير من عناصر الثقافة الغربية خاصة ما يتعلق منها بالمناهج والسلوكيات الأخلاقية...إلا أنها تبقى ثقافة تهتم بالواقع والواقعية أكثر من محاولة ادلجة ...!

وكأنما التلفزيون نفسه لم يكن معنيا كذلك بالنتيجة الحيادية بقدر إشغال برنامجه...

لاعتبارات تخدم مصلحة القناة من زوايا ما..ربما مادية أكثر...أو ربما تخدم سياسة معينة لهدف معين...

وفي اليوم التالي 1/6/2012 كانت قناة العالم –الإيرانية التي تعكس وجهة نظر النظام السوري؛ تستضيف السيدين د.خالد عيسى، ود.طالب إبراهيم، وكانت المجاملات من السيد طالب إبراهيم تعكس مدى التناغم بين اتجاهي هيئة التنسيق والنظام...إلى درجة إن السيد د.طالب إبراهيم كان يصف أعضاء هيئة التنسيق بما لم يصف به الموالين للحكومة...سواء بقصد الدغدغة السياسية، أو التعبير الفعلي عن حقيقة العلاقة بينهما..ويبدو أن ذلك كان يرضي زميله, فقد قال د.طالب لو انه وصف مجلس استانبول لما وصفه بأحسن مما وصفه  د.خالد "بل إنه وصف في بعضه بأحسن مما يمكنني".

وأنا هنا لست معنيا بهذه الواقعة إلا بقدر ما يعزز وجهة النظر القائلة: إن هؤلاء وأمثالهم، ليسوا محللين، وإنما مدافعين عن اتجاهات محددة سياسيا- بغض النظر عن توافق دفاعهم مع الحقيقة أم لا -.وهنا المشكلة..!

وهذا الدور نفسه يلعبه الإعلام - العربي خاصة- ويكاد يتحول من وظيفته في الكشف عن الواقع –كسلطة رابعة- كما يوصف عادة. إلى وظيفة تزييف الواقع لوجهة نظر محددة..!

فيا خيبة الأمل في ما يسمى تحليلا سياسيا، وهو في الحقيقة والواقع، صراع بين منتمين إلى تيارات سياسية مختلفة، ويمارس كل منهم  دور الدفاع عن الجهة التي ينتمي –او يتعاطف- إليها، لا دور الباحث عن الأدلة والقرائن –المعلومات- ليبني عليها استنتاجاته  ورؤاه.ومن ثم يتوصل إلى خلاصة تكون متوافقة مع الحقيقة.

ويا خيبة أمل في إعلام  عرف بأنه سلطة رابعة لصالح المجتمع،يتحول إلى مجرد وسيلة رخيصة بيد النظم والقوى المهيمنة –أيا كانت..وفي أغلبه ضد الشعوب والمجتمعات.!

وهنا المشكلة والمأساة في الثقافة التي تحرك هذا النهج المؤذي لمصلحة تطوير المجتمعات عالميا، وتوفير السلم الأهلي المطلوب للحياة الآمنة وتحقيق التطور.

               

[i] - نحن هنا نفرق بين الحالة الثقافية المعبرة عن النزوع نحو العلم بشروطه الموضوعية ومنها استلهمنا توصيف "المحلل المثقف"،  وبين الحالة الثقافية المسخرة لنزوع نفسي أو ذاتي- كالسياسة والمصالح وما يتعلق بها ومنها استلهمنا  توصيف " المحلل المؤدلج".

[ii] - في كتاب "سبعة مع آبو  قائد وشعب" الذي كتبه الصحافي نبيل الملحم. وفي ص( 167 ) يسأل الصحافي: "وبالنسبة لسوريا ؟! ماذا عن أكراد سوريا؟!" يرد "آبو" قائلا:

 "بالنسبة لسوريا فإن غالبية الشعب الكردي في سوريا قد نزحت من كردستان الشمالية..البعض يروّج لمقولة كردستان سوريا ،إلا أننا لا نعتقد أن هنالك معضلة حقيقية في هذا الموضوع..إن هذا الطرح ليس موضوعيا،وهو ليس مفهوم دقيق ،التسمية. الأصح هو أن نقول عنهم الأكراد السوريون، فهؤلاء قد فروا من ظلم واستبداد العثمانيين والجمهوريات التركية، نتيجة مشاركتهم في الانتفاضات التي اندلعت في كردستان. وبعد سحق الثورات فيها، .... أما بالنسبة إلى الأكراد فإنني أستطيع التأكيد أنهم أتوا من شمال كردستان ،وفي بداية مجيئي إلى ساحات الشرق الأوسط،قلت يجب وقف الحملة باتجاه الجنوب ،والتحضير لحملة الشمال.؟

ويؤكد هذا في إجابة السؤال التالي مباشرة بالقول:

"قلت لتتوقف الهجرة نحو الجنوب ،وتبدأ الهجرة نحو الشمال...لقد بدأنا بحملة، وبنضال شاق وطويل في هذا الاتجاه ووجهنا الأكراد السوريين إلى الجبال باتجاه الشمال من حيث أتوا ،وأعتقد بان سوريا راضية عن هذا ،وان الأكراد  راضون أيضا...".

ويمكن متابعة الموضوع بتفاصيل أوفى في الكتاب المذكور.