دور العشائر في الثورة السورية
دور العشائر في الثورة السورية
تحقيق: عبد الله زيزان
د. عبد الناصر تعتاع
مركز أميّة للبحوث والدراسات الاستراتيجية
ما إن بدأت شرارة الثورة السورية تتوسع في طول البلاد وعرضها، حتى بدأت تطفو على السطح كيانات وتجمعات شعبية وسياسية مختلفة، لم يكن لحراكها سابقاً أي ضجيج أو أثر... ويبرر أصحاب هذه التجمعات هذه الظاهرة بأن الثورة سمحت ولأول مرة منذ ما يقارب النصف قرن للأفراد والجماعات بالتفكير بصوت عالٍ، لا يخشون سطوة جلاد أو تقرير مخبر، فنحن الآن في زمن ولى فيه الخوف من الديكتاتور، وأصبحت كلمة المواطن لها قيمة ليس داخلياً فحسب، بل حتى في دول العالم أجمع...
التجمعات على أساسي عشائري كانت من أبرز التغيرات التي أفرزتها الثورة على الساحة الاجتماعية وحتى السياسية ، فالعشائر، مكون أساسي للنسيج السوري، يرى أبناؤه أنهم هُمِّشوا في عهد آل الأسد، بل إنهم يرون أن النظام قد تعمد استهداف شيوخهم وتغييبهم عن الساحة الوطنية ليبقي ولاء المواطنين للنظام فقط بعيداً عن أي ولاءات أخرى، قد تهز أركان حكمه في يومٍ من الأيام...
فمنذ أن انطلقت الثورة السورية والصوت العشائري بات أكثر وضوحاً... فتكتل شيوخ العشائر بتجمعات وائتلافات كان آخرها مجلس القبائل العربية السورية، والذي عقد مؤتمره التأسيسي في السادس عشر من إبريل الماضي، بمباركة من المجلس الوطني السوري، المكون الأساس للمعارضة السورية...
ولكن ما هي العشيرة، وما حقيقة حجم العشائر في سورية، وما مدى تأثيرها في قرارات أبنائها؟ فهل لا زال ابن العشيرة يدين لشيخ عشيرته؟ وهل للعشائر السورية دور محوري في الثورة السورية؟ وأخيراً ما هو مستقبل العشائر سواء في الثورة أو في سورية الجديدة ما بعد سقوط النظام السوري الحالي؟
العشيرة
قبل الخوض في دور العشائر في سورية، لا بد من تعريف سريع لهذا المصطلح...
فالعشيرة مجموعة من البشر ينتمون إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى، وغالبا ما يتكنون بكنية هذا الجد، وتتكون من عدة بطون أو من عدة عوائل. وغالبًا ما يسكن أفراد العشيرة إقليما مشتركًا يعدونه وطنًا لهم، ويتحدثون بلهجة مميزة، ولهم ثقافة واحدة...
والعشيرة هي المكون الرئيسي للقبيلة، فتحالف عدة عشائر تتكون القبيلة، وشرط العشيرة أن يتكون أفرادها من نسب واحد، بعكس القبيلة، فالقبيلة قد تتكون من عدة عشائر من أنساب واحدة أو من أنساب مختلفة الجد.
وأهل العشائر يعدون القبيلة نظاماً اجتماعياً سياسياً قائماً بقوانينه وأعرافه، بصورة تختلف عن قوانين الدولة، والتي يصفونها بأنها قوانين وضعية، واستطاعت القبائل بهذه الأعراف والقوانين أن تلعب في الماضي دوراً مهماً في المحافظة على الأمن وحماية الوطن.
العشائر في سورية
تقسم العشائر والقبائل السورية إلى ثلاثة أقسام باعتبار طبيعة إقامتها:
القسم الأول: البدو الرحل أهل البادية والظعون، ويقال لهم: الأعراب أهل الوبر، وهم يتنقلون بين الشام والعراق وهضبة نجد في المملكة العربية السعودية.
القسم الثاني: البدو نصف الرحل، عُرْبان الدِّيْرَة، أي: نصف المتحضرين، وهم الذين طالت إقامتهم ثم ثبتت في مكان ما من الأمكنة التي كانت ممراًّ لعشيرتهم أو قبيلتهم سابقاً، ثم تخلفوا عن الترحال البعيد لسبب من الأسباب التي فرقت بينهم وبين القبيلة الأمّ. وهؤلاء لهم قراهم ومشتاهم، وهم لا يوغلون بعيداً بحثاً عن الكلأ، وتقتصر نُجعتهم على مسافات تبعد عن قراهم مسافة 200 إلى 400 كم في البراري الشامية.
القسم الثالث: الحضر غير الرحل، وهُم العرب؛ أهل الحضر أو المدر، الذين استوطنوا المدن والقرى وتخلوا عن انتجاع البادية طلباً للكلأ ومصادر المياه، وهؤلاء يزدادون بشكل مستمرٍّ بينما تتناقص أعداد البدو الرحل ونصف الرحل، وسبب ذلك الجفاف وقلة الكلأ، وطلب الراحة والدعة والرفاه والتخلي عن شظف العيش.
والعشائر في سورية تشكل نسبة لا يستهان بها في المجتمع، فرغم عدم توفر إحصاءات رسمية لهم، إلا أنّ أهل العشائر يعدون أغلب أهل الريف من أبنائهم، وبما أن سكان الريف يزيدون قليلاً عن نصف المجتمع، فإن الشيخ "جمال الشايش" أحد شيوخ العشائر يقدر أن ما يزيد عن الـ 45 بالمئة من الشعب السوري عامة هم من أبناء القبائل والعشائر، إلا أنّ الأهم ما مدى ارتباط أبناء العشائر بعشيرتهم، ومدى التزامهم بأوامر شيوخهم...
العشائر والثورة
يختلف الكثير من المتابعين للقضية السورية حول المنطقة التي بدأت بالحراك الثوري، ولكن المؤكد أنّ الحراك المؤثر في مسار الثورة كانت من درعا جنوب سورية، ويفخر أهل العشائر أن درعا تعد من المناطق التي يسيطر عليها الحس العشائري، فكان للترابط العشائري هناك الدور الأكبر في توسع الحراك وانتشاره من قرية لأخرى حتى شملت المناطق الجنوبية بالكامل...
وفي الحقيقة فإن النظام وحتى قبل اشتعال الثورة السورية حاول استمالة العشائر له وتحييدهم، لكسبهم إلى طرفه، فكان يغدق على بعض شيوخ العشائر بالأموال والهبات، والسيارات والأراضي، وقد نجح النظام بالفعل مع الكثير من هؤلاء الشيوخ والذين باتوا مؤيدين له، بل وداعمين له في القمع والتنكيل...
ومع بداية الثورة السورية شعر النظام بالخطر المحدق عليه، وخشي انقلاب بعض العشائر ضده، فبذل مزيداً من الأموال بسخاء منقطع النظير، لتصل حصة بعض الشيوخ إلى اكثر من ربع مليون دولار وبعضهم الآخر حصل على 400 ألف دولار، وكانت الأموال تدفع للشيوخ بحسب ثقل عشيرتهم على الأرض، فالعشيرة التي يعد أبناؤها بمئات الآلاف ليست كالعشيرة التي تعد بعشرات الآلاف.
ولم تكن ظاهرة استخدام العشائر جديدة على النظام السوري، ففي عام الـ 2004 قام النظام بتسليح شيوخ العشائر بالإضافة إلى منحهم الكثير من العطايا والمزايا ليقفوا في وجه الانتفاضة الكردية في تلك الفترة، وكان لهم دور ملموس في إخماد تلك الانتفاضة...
ومع بداية الثورة السورية نجح النظام -بكرمه الفريد من نوعه لبعض شيوخ العشائر- بتأخير الحراك الثوري في الكثير من البلدات والمدن، إلى أن بدأ أبناء العشائر يتململون من مواقف شيوخهم في ظل بحار الدماء التي تسيل في أزقة وحارات سورية، مما دفع الكثير منهم للخروج عن طوع هؤلاء الشيوخ والانضمام بشكل فردي إلى صفوف الثوار، وفي كثير من الأحيان رفع أبناء العشائر السلاح بوجه النظام وانشقوا عن صفوف جيشه وكتائبه الأمنية المختلفة...
ومع أنّ النظام استطاع تحقيق بعض النتائج بسياساته مع شيوخ العشائر في الشمال والشرق إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في جنوب البلاد، والتي ارتكب فيها أخطاءً كلفته الكثير، ولا زال حتى اليوم يدفع ثمن أخطائه تلك، فدرعا والتي تمثل أبرز المناطق العشائرية في سورية كانت المحطة الأولى في الثورة، وذلك بسبب الأخطاء الفادحة التي ارتكبها مسؤول الأمن السياسي بدرعا عاطف نجيب، كاستهتاره بالوفود العشائرية التي جاءت إليه تطالبه بالإفراج عن الأطفال المتهمين بكتابة عبارات مناهضة للنظام على جدران مدارسهم حيث وبخهم وتعرض بكلامه لنسائهم، ليشكل ذلك مسّاً مباشراً لكرامة العشائر فأخرجتهم عن طورهم، لتكون درعا مهد الثورة السورية...
العشائر والحراك السياسي
لم يكن للعشائر تكتلات سياسية واضحة، ولم يظهر حراكهم ما قبل الثورة السورية، إذ إن حياتهم السياسية اقتصرت على بعض النواب في البرلمان والذين لم يكن لهم أي وزن كما كل النواب الآخرين، فمجلس النواب في ظل حكم آل الأسد لم يكن إلا أداة لتمرير وتبرير سياساتهم في البلاد، ولا يعاب على العشائر عدم وضوح حراكهم السياسي في تلك المرحلة، لأن الشعب السوري بأكمله كان مغيباً عن الحياة السياسية بصورة كلية....
لكن ومع تصاعد وتيرة الأحداث في سورية، والذي رافقه حراك سياسي واسع، بدأت الأصوات العشائرية بالظهور وبصورة ملموسة تماماً، فتجمعوا بعدة كتل وتجمعات، فتم إنشاء "تحالف قبائل وعشائر الجمهورية العربية السورية" في العام الماضي ليكون أول تجمع لشيوخ العشائر السورية بصورة منظمة بحسب الشيخ "جمال الشايش".
وفي الرابع عشر من شباط الماضي، أعلنت رموز عشائرية في سورية، عن تشكيل تكتل أحرار العشائر العربية لمواجهة النظام السوري، والتحضير لمرحلة ما بعد الأسد، وقد أكد الشايش أن مؤسسي هذا التكتل يبررون خطوتهم هذه بأن أكثر من 70 قبيلة سورية تقف إلى جانب الثورة السورية، فكان لا بد من جمعها تحت تكتل واحد، وقد جاء هذا التكتل كرد غير مباشر على مؤتمر العشائر الذي أعلنت عنه الحكومة السورية نهاية شهر كانون الثاني الماضي والذي جاء بدعوة من النظام السوري لضمان سيطرة النظام على هذه الشريحة من المجتمع وضمان ولائها له في ظل تصاعد الحراك المناوئ لها في طول البلاد وعرضها.
وأخيراً تم تشكيل "مجلس القبائل العربية السورية" في السادس عشر من نيسان الماضي ليكون تكتلاً سياسياً منظماً ذو مشروع بنيوي مؤسساتي يضم أغلب أبناء القبائل العربية السورية، وقد أكد لنا الشيخ "جمال الشايش" أحد مؤسسي هذا التجمع أنّ مجلس القبائل العربية السورية منبثق من المجلس الوطني السوري وغير منافس له، وهو يهدف لحماية الوطن والمواطن في الحاضر والمستقبل أي ما بعد سقوط النظام...
إنّ انبثاق المجلس العشائري الجديد من "المجلس الوطني السوري" أعطاه صبغة شرعية مستمدة من شرعية المجلس الوطني والذي بات الإطار السياسي الوحيد المقبول داخلياً وخارجياً، ويهدف المجلس الجديد تنشيط دور القبائل السورية في هذه المرحلة من الثورة والمرحلة القادمة بعد زوال النظام، فقد أكد "محمد مزيد التركاوي" عضو مجالس القبائل العربية والمجلس الوطني السوري في حديث لصحيفة الشرق الأوسط في نيسان الماضي أنّ المجلس الجديد سيعمل على تشكيل مجالس محلية، وسيتم مستقبلا التنسيق مع القبائل الكردية والدرزية وغيرهما وبالتالي يتم تغطية معظم المدن السورية لحفظ الأمن بعد سقوط النظام، وذلك في إجراء احترازي، وسيكون ذلك بالتنسيق مع المجلس الوطني السوري.
أما "محمد الطنطاوي الهنداوي" -وهو عشائري غير مؤسس في المجلس الجديد- فقد أكد لنا عن ثقته بهذا المجلس وقدرته على استقطاب غالبية أبناء القبائل والعشائر ويتوقع أن يكون المحرك القوي لحراك القبائل الحقيقي في الفترة القادمة وداعماً رئيسياً للثورة السورية...
وفي أول اجتماع موسع لمجلس القبائل العربية السورية والذي عقد في شهر أيار الجاري بمصر أكد المجلس على لعب العشائر السورية لأدوارها السياسية والعسكرية من خلال تشكيل مجلس سياسي تابع له لمتابعة القضايا السياسية، وبنفس الوقت دعم الجيش السوري الحر بالمال والعتاد الذي يحتاجه، وتحفيز أبناء العشائر للانشقاق عن صفوف الكتائب الأسدية والانضمام للجيش الحر.
العشائر ومستقبل سورية
يرى العشائريون كما كل الشعب السوري المنتفض أنّ النظام ساقط لا محالة، فالنظام فقد حتى شرعية الأمر الواقع والتي فرضها منذ عقود على الشعب، فمعظم الأراضي السورية اليوم خارجة عن سيطرة النظام، حتى بوجود دباباته في كثير من المدن السورية، فالسيطرة العسكرية لكتائب الأسد على مناطق معينة في سورية لا يعني أنّ مقومات الدولة تسري في تلك المناطق، فلا رجال شرطة ولا مراكز أمنية عاملة على هذه الأراضي...
وبناء على الصورة السابقة، بات الجميع يفكر في شكل الدولة الجديدة لسورية ما بعد سقوط النظام، دون أن يقللوا من أهمية العمل في هذه المرحلة على إسقاط النظام، وهنا تبرز أسئلة أساسية في القضية العشائرية، فما هي شكلة الدولة التي يفكرون بها، هل سيكون الاحتكام للقوانين المدنية في الدولة الجديدة أم للقوانين العشائرية ولشيوخ العشائر، وما إلى ذلك من أسئلة أساسية لا بد من معرفتها لرسم صورة سورية المستقبل.
والحقيقة أن اجتماع العشائر الأخير المنعقد في القاهرة في شهر أيار الحالي أجاب عن جزء من هذه الأسئلة حيث أعلن مجلس القبائل العربية السورية في اجتماعهم عن العمل على قيام دولة مدنية بدستور يكرس سيادة الشعب، هذا بالإضافة إلى رؤية المجلس والتي تم تلخيصها بثلاثة عشرة نقطة، والتي فصلت فيها شكل الدولة المدنية الحديثة من حيث فصل السلطات ووضع دستور حضاري جديد وإطلاق الحريات وضمان تساوي حقوق كل أبناء المجتمع السوري.
إذن هذه تصورات أبناء العشائر والقبائل لشكل سورية المستقبل، لكن يبقى السؤال مفتوحاً ودون إجابة، هل ستنطبق الرؤيا التي وضعها المجلس العشائري الجديد على أرض الواقع ما بعد سقوط النظام، أم أنّ الأمر حينها سيكون مختلفاً؟