أخطأ نيتشه وأصابت الثورة السورية
أخطأ نيتشه وأصابت الثورة السورية
عمر عبد العزيز مشوح
خدمة مركز مسار الإعلامي
قد يكون مفيدا في كثير من الأحيان أن نعيد قراءة فصول من التاريخ متناثرة هنا وهناك تتحدث عن متلازمة الحق والقوة ، ليس الحق الذي تفرضه القوة ولكن الحق الذي تحميه القوة وتكمن فيه معاني القوة .
لا يمكن تاريخيا ولا حتى منطقيا فصل الحق عن القوة ، لأن الحق الذي لا تحميه قوة هو حق ضائع وحق مستباح ، والحق الذي لا يملك حق الدفاع عن نفسه هو حق ضعيف سوف تطأه سنباك خيل الغزاة والمستبدين !
لم تكن الثورة السورية بمنأى عن هذه المتلازمة التي أصبحت تهمة لها يسوقها بعض من لم يقرأوا التاريخ وخصوصا تاريخ الثورات ضد المستبدين المجرمين الذين يؤمنون بنظرية نيتشه (الحق للقوة) !
دخلت الثورة السورية لتفك رموز هذه المتلازمة ولتصحح للفيلسوف (نيتشه) وتلامذته بأنها تؤمن بـ (قوة الحق) وليس بأن (الحق للقوة) ، فالمسافة شاسعة بينهما ، وإذا أردنا تمثيل هذه المسافة فهي تشبه التي بين براءة حمزة الخطيب وقسوة وحقد قاتله .. المسافة بعيدة جد بعيدة !
قوة الحق التي نتحدث عنها هي القوة التي تنبع من عمق الحق وصدقه ومشروعيته ، القوة التي تتولد ذاتيا لكي تدافع عن نبضها وهو الحق ، القوة التي تتحول إلى أم تحمي صغارها من نهشات الموت والفناء ، (القوة السلمية) التي تدافع عن الحق لأنه حق وتدافع عن أصحاب الحق لأنهم يبحثون عن حقهم المنتهك والمغتصب .
وعندما نقول انها (قوة سلمية) أي انها ليست متعدية ولا مؤذية ولا طائشة ، ولكنها تدفع عن نفسها القتل والفناء ، تبعد المعتدي عن إطار حقها ولا تتعداه أكثر من ذلك .
يتحدث البعض عن سلمية الثورة وعسكرة الثورة ، وأن الثورة انحرفت عن أهدافها لأنها انطلقت سلمية ثم (تعسكرت) ، وأنه لولا وجود الجيش الحر وقتاله لعصابات الأسد لحققت الثورة أهدافها ولما وقعت هذه الأعداد الكبيرة من الشهداء والجرحى والمعتقلين .
وهذا المنطق الغريب الذي لا تؤيده الوقائع على الأرض ولا تؤيده الوقائع التاريخية لا للنظام ولا للثورات المشابهة ، هذا المنطق احدث شرخا في صف الثورة كان يمكن ألا يحدث لو فهمنا متلازمة الحق والقوة التي تحدثت عنها في البدايات . وكان يمكن أن تبقى الثورة قوية متماسكة الصفوف لو اقتنع هذا البعض بأنه يجب أن يكون للحق قوة تحميه .
كل الوقائع التاريخية تؤيد حق الثورة السورية بأن توجد لها قوة تحميها ، لأن التاريخ لم يذكر عن مستبد ومجرم وقاتل يتم دفعه بالورود والرياحين والياسمين ! ولم يذكر التاريخ ان ثورة تواجه الدبابات والرصاص والطائرات بتجمع بشري يرفع لافتة مكتوب عليها (أرفض القتل) !
هذا المنطق الضعيف الواهن لم يسجله التاريخ أبدا ، وإذا كان البعض يستشهد بتجربة غاندي النضالية السلمية في مواجهة المستعمر البريطاني ، فالرد بسيط جدا ، هاتوا لنا نظاما يشبه المستعمر البريطاني وسوف نتحول جميعنا إلى نسخ مكررة من غاندي !
لكن الحقيقة المرة أننا نواجه مستعمرا ومستبدا وقاتلا لا يعترف بالإنسانية أصلا ولا يعترف بحقنا في الحياة فضلا عن حقنا بالحرية ، فمن الظلم للمستعمر البريطاني أن نقارنه بهذا الوحش المفترس !
لم تتحرك (قوة الحق) إلا بعد صبر طويل من هذا الشعب الحر الأبي ، وبعد معاناة طويلة من الاعتقالات والتعذيب والقتل ، وبعد محاولات كثيرة من شباب الثورة في ممارسة جميع انواع التظاهر السلمي والعصيان المدني وتقديم الورود إلى (حماة الديار) ، كل شيء فعلوه من أجل أن يثبتوا للجميع أنهم يريدونها سلمية بكل صدق .
ولكن الرد الأحمر القاني من هذا النظام اللابشري كان سببا في إيقاظ (قوة الحق) التي كان يجب أن تتدخل لتحمي من بقي من هذا الشعب من فناء وإبادة !
من يقرأ التاريخ يعلم جيدا أن النظام لم يتغير ولم يخرج عن عقليته القديمة القائمة على تحطيم كل شيء امامه ، وكما قال (باتريك سيل) في كتابه الشهير (الأسد .. الصراع على الشرق الأوسط) ، يقول : كان الأسد يشعر بأنه يجب أن يظل بلا منازع فلا يتحداه أحد على الإطلاق ، وأن اي كمية من الديموقراطية الفعلية قد تصبح مصدر إرباك) ، هذا عن الأسد الأب ! فهل تغير شيء في عهد الأسد الابن ؟ أبدا .. بل زادت كمية القمع بعد تمثيلية ربيع دمشق وفتح بعض مسامات الهواء للشعب ، التي ما برحت حتى تم إغلاقها بعنف وشراسة .
هذه العقلية الاستبدادية الشرسة لا يمكن التعامل معها بمنطق السلمية الضعيف ، ولا يمكن لأي حق أن ينمو ويزدهر إلا بقوة تحميه وترعى نموه وتدفع عنه أشواك الاستبداد المدمية !
ما فعلته الثورة السورية يذكرني بموقف للخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تم منع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة للعمرة ، قال : يا رسول الله .. والله ما خرجنا لنقاتل الناس ولكن خرجنا للعمرة، فإن قاتلونا قاتلناهم حتى نعتمر !
وهذا ما فعلته الثورة السورية .. لم تنطلق هذه الثورة لتقاتل أحدا ، وإنما خرجت للحرية ، فإن منعها النظام وقالتها فسوف ترد عن نفسها هذا القتل وتقاتله حتى تنال حريتها !