نفحات من مدد 9

نفحات من مدد

الجزء التاسع من يوميات بلا أسرار في المخيمات

نسيبة بحرو

[email protected]

عند شدة الخطب وعظم الكرب وتوغل اليأس في جنبات النفس ، يرسل الله نفحات من مدد وخير فيشفي بها قلوب المسلمين ويهدئ من روعهم .. وحين هاجر السوريون فراراً من البطش والظلم ، أرسل الله لهم النفحة الأولى متمثلة في الحضن التركي الذي احتواهم داخل المخيمات ، وأحاطهم بالرعاية والاهتمام في جوانب عدة ..منها توفير مستلزمات المعيشة الأساسية كالمأوى والمأكل والمشرب ، ومتطلبات الحياة المعرفية من فصول تعليمية ودروس اللغة التركية وفنون الخرز والخياطة ونسج الصوف .. أوانشاء ساحات لعب ورياض ترفيهية للأطفال ، وارسال العمال لنصب المزيد من الخيم كلما أقبل الوافدون ، ولأمور الصيانة الدورية وتهيئة وتنظيف المكان ..

هذا العطاء نسج في قلوب المهجرين معاني الوفاء للحكومة التركية وللطيب رجب أردوغان مما دفع احدى الأمهات إلى تسمية مولودها باسمه ، وحيث أبدعت سهام برسمه في صورة ذيلتها بشكره ، عبرت رغد عن الامتنان لتركيا الصديقة حين رسمت الأعلام ، علم سوري وآخر تركي يلتقيان وبينهما تحلق حمامة السلام .. أما في الجانب الطفولي وحيث الفصول الدراسية ، شكر الأطفال أساتذتهم الأتراك وبلحن ترنمت به الشفاه هتفوا مراراً وتكراراً : شكراً أستاذ .. شكراً تركيا .

إلا أن نفحة العون القادمة من الغريب ومهما كانت منعشة ، فإن نفحات شريك الغربة والألم أطيب وأقرب الى النفس المرهقة بمشاق المهجر والمثخنة بجراح لا تندمل .. وكانت تلك النفحات التي هبت عليهم من أبناء الوطن المغربين عن سوريا منذ زمن .. حين شدوا الرحال الى المخيمات ، تختلف أدوارهم بينما يجمعهم هدف واحد ، العطاء والبذل وسد الحاجات البدنية والنفسية لاخوانهم المهجرين والوقوف معهم في محنتهم ، كلٌ يؤدي الدور من منطلق تخصصه ومعرفته .. فمن طبيب الانسانية الذي حمل سماعته منتقلاً بها من مريض الى آخر ، يكشف على هذا ويطبب ذاك دون أجر دنيوي مرتجى .. أو طبيب الأسنان الذي لم تتوفر عنده معدات الفحص والعلاج ، فأبى إلا أن يقوم بدوره دونها متحملاً الجهد والمشقة ، ومتمماً عمله  بتأمين وايصال أدوات ومستلزمات العناية بالأسنان لهم ..

 إلى رفيق الانسانية الذي حمل هموم المهجرين ومآسيهم ، ينتقل ما بين مكلوم ومشتكي، يستمع لهذا ويصنع الحلول لمشكلة ذاك دون كلل ، يلقي عليهم من الخطب والمواعظ مايخفف عنهم ويطيب خاطرهم ، ويلقيها على الأطفال في الصفوف التعليمية بأسلوب لطيف محبب فيرشدهم الى أهمية هذه الدروس ويشجعهم على الالتزام بحضورها ، ثم يغادرهم بكفه الملوحة فترد عليه الكفوف الصغيرة المودعة بحب وامتنان ..

ومن تلك النفحات كلمات بحماسها تشحذ الهمم .. وبألحانها تنعش الوجدان ، يترنم بها منشد فنان بصوته الشجي وحسه الصادق ليلمس بها قلوباً أضناها روتين المهجر والحرمان ، فيحول اليأس الى حسن فأل والشكوى إلى ترنيمة عذبة تنسيهم المشتكى ، يترقبون الأغنية تلو الأخرى ويحيطون به في سعادة كبيرة .. ثم يشكرونه على زيارته الثمينة ويرجونه أن يعود اليهم ليزرع الأمل والفرحة في نفوسهم من جديد

 أو سيدة هي الأم الحنون للأطفال والأخت العطوف للسيدات والفتيات ، تمضي كامل نهارها بينهن فتجلس في مجلسهن وتأكل من طعامهن رغم مشقة الظرف والمكان ، تنتقل ما بين خيمة وأخرى لتمضي في كل منها ساعة فتمتص همومهن وآلامهن إلى ثنايا قلبها الكبير ، ثم تبثها لهن أملاً مشرقاً وكلمات كفيلة بتجديد معنى الحياة في نفوسهن ، وفي نهاية المطاف وبعيداً عن ناظرهن تفرغ ما امتصه القلب بدموع تبكي حالهن .. حين يصادفها طفل تتردد قبل منحه الحلوى خوفاً من أن تظلم بقية الأطفال الذين لم تعطهم ، فتستبدل ذلك باللمسة الحانية والحضن الدافيء والذي هو الأهم والأغلى عنده في ظل ظروفه القاسية .. غايتها المساندة والمواساة ثم التقاط الصور وتوثيق الحكايا لتمنح تلك الأصوات الحبيسة خلف الأسوار حريتها في البوح للعالم عما يكابدونه في المهجر ، ولتمدني بها فتصبح تلك الحكايا والصور المنهل الرئيسي لسلسلة حكايا يوميات بلا أسرار في المخيمات .. وحيث غمرتهن بعطاءها الوجداني ، فإنهن حرصن على رد ذلك بإهدائها شيئاً مما تبدعه أناملهن كشال مطرز ، أو كلمات وقصائد يشكرنها بها ..

ومن معالم الوفاء المتعددة ، نجد خاطرة مؤثرة كتبتها رغد ، تعبر بها عن شكرها للدكتور الذي زارهم فأظهر الاهتمام والرعاية بما تنتجه من رسومات وخواطر وشجعها على المضي قدماً ، فتخاطبه في خاطرتها ( أدخلت الى قلبي البهجة والسرور، فأنا لم أعرف الفرح منذ شهور، وظننت أن رسومي وخواطري ستدفن في القبور، أعدت إلي الأمل والتفاؤل المأسور ، كتبت ورسمت منذ الصغر ولم أجد أحداً تهمه هذه الأمور ، حتى جاء إلينا طيفك ومر علينا مرور ، وترك لي بصمة تشجعني أن أعبر البحور ، لا تفهمني خطأ يا دكتور فليست بهجتي بمال ولاجاه ولا قصور ، بهجتي باهتمام أحد من الحضور وشكراً لك يا دكتور ) ..

إنه العطاء بأسمى معانيه والوفاء بأروع ما فيه ، وهكذا هي أخوة الدين والوطن .