مناسك شارل أبيدو!
د. عادل محمد عايش الأسطل
لم تكن الهجمة الأوروبية الممنهجة ضد الإسلام والمسلمين في شأن محاربتهما هكذا، بل كانت نتيجة تنامي الخوف منذ شعورها باستيطان الإسلام لديها، والذي من شأنه أسلمة شعوبها، بناءً على صدور تقارير عِدة خلال السنوات الفائتة تؤكّد ذلك الشعور، ولذلك فقد دأبت حكوماتها في تأليف الخطط وتكوين الأحلاف لمكافحة الإسلام والمسلمين، باعتباره ظاهرة تؤرق مضاجعها، فعلاوة على التضييق عليهم من خلال إجراءات خاصة، تحِد من نشاطاتهم الدينية، برغم ما تُنادي به في جولات (حوار الأديان) والتي لا تهدف من ورائها إلاّ محو الإسلام أو تجديده بما يتواءم مع مصالحها على الأقل، والتي أنتجت المزيد من الاحتقان والكراهية بين الشعوب، وأتاحت عبر قوانين مُواربة لمؤسساتها الإعلامية، أن تنشط كما يحلو لها باتجاه العرب والمسلمين، بدون حفلها باحترامهم ولا بمراعاة حقوقهم، بزعم الإبداع الثقافي والحرية الفكرية والصحفيّة، وبالتالي تسجيل المزيد من العنف والحوادث الدموية فيما بينها، وهذا ما حدث بالفعل ضد صحيفة (شارل أبيدو) الفرنسية، عندما قامت عن عمدٍ وتحدٍ واضحين، بنشر رسومات مسيئة للنبي سيد العالمين "محمد صلى الله عليه وسلم" برغم الهجومات التي حدثت ضدها منذ عام 2006، لقاء إعادة ما نشرته زميلتها الدنماركية (يولاندس بوستن) من رسومات مسيئة للنبي محمد (ص) وتلك التي جرى تنفيذها خلال العام الماضي، والتحذيرات المتتالية التي قالت بأنه محظورٌ عليها المس بالدين الإسلامي والنبي محمد (ص)، وهو الأمر- في نظر المهاجمين على الأقل- الذي استوجب هجومهم على مقر الصحيفة، وقتل المتسببين بالإقدام على ذلك الفعل، ومن بينهم مديرها "شارب" وثلاثة من رسّامي الإساءة، بعدما لم يجد القاتلون من يغارون ضدها بوسيلة أو بأخرى لنصرة دينهم ونبيّهم، وهذا لا يعني تبريراً بالضرورة أو موافقتنا على الطريقة التي تم اتباعها.
لم يكن مُلفتاً الغضب الذي أبدته الجمهورية الفرنسية، بسبب أن الحادثة على أراضيها وتستهدف مواطنيها، لكن الذي كان ملفتاً أكثر، وبحرارة زائدة عن الحد، هو هرولة قادة العرب والمسلمين إلى ركوب الريح للمشاركة في التظاهرة التي أقامها الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" وأداء مناسكها على أصولها، دعماً لـسياسة "هولاند" واحتجاجاً على الإرهاب، وكأنهم يرفلون بأثواب السعادة في بلدانهم، أو هم الذين لا يقمعون الحريات بها، في جوٍ من الموت والدمار والجوع والشقاء.
على أي حال، ولست بالضرورة أن أقف مع أو ضد الذين رحّبوا بمشاركة العرب في التظاهرة، فإن ذهابهم إليها وبُكائهم أثناءها، لم يشفع لهم جميعاً، بسبب علم الفرنسيين بأن مجيئهم هو بمعزل عن شعوبهم، ولأن مسؤولية قمع الإرهاب تقع على عاتقهم، ومن ناحيةٍ أخرى، بسبب وضوح "هولاند" نفسه من أنه لا ينبغي تقييد حرية التعبير، وأنه أن الأوان لبدء الحرب ضد الإرهاب والاسلام المتطرف، حيث ماثلت دعوته تماماً، دعوة الولايات المتحدة عقب هجمات 11 سبتمبر، بعبارة (من ليس معي فهو ضدّي)، كما لم تكنفِ المؤسسات الإعلامية ولا الصحيفة المكلومة ذاتها، بعدم احترامهم ولا بالاعتذار لهم على الأقل، على قيامها بنشر إساءاتها المريضة، بل قامت بتحدٍ آخر لهم، من خلال نشر صورٍ مسيئة جديدة، الذي تعهّد بها الرسام "لويز" تحت عنوان (كل شيء مغفور) استخفافاً بهم وبالمسلمين بعامّة. وإمعاناً في التحدّي والمواجهة، قضت بأنها ستضاعف إلى مئات المرات عدد نسخها المطبوعة لتصل إلى 3 ملايين نسخة سيتم توزيعها على أكثر من 30 بلداً، وبأكثر من 20 لغةً وبضمنها اللغة العربية، حيث أثبتت بذلك بأنها أكثر عدائية وإصراراً على تسخين الأمور، لأجل أن يسود الشارع الغربي موجة من انعدام التسامح في مواجهة الإسلام والمسلمين، دونما أيّة صلة، لا بالفكر ولا بالحريّة الصحفية ولا باحترام مشاعر المسلمين، سيما وأن الكل يعلم بأن المساس بالدين، هو من الكبائر التي لا يمكن السكوت عليها.
وإذا كان تبرير جرائم الإساءة للإسلام بالاعتداء على المسيحية وأنبياءها، فهذا شأنهم وحدهم، وكذا اليهودية والبوذية والهندوسية وغيرها، فهذا شأن من تخصهم، وأمّا الدين الإسلامي، والنبي محمد(ص) فهو شأننا ولا يحق لأحد الاقتراب من قدسيتهما، فالغضب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لدى المسلمين لا يؤدي بشكل عام إلى الثورة، بقدر ما يثور ضد أيّة جهة تتعمّد المس بديننا القويم ومعتقداتنا الأصيلة، وهم على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل إسلامهم الذي ارتضوه، فما الذي يمكن أن يتوقعه أيّهم، ليس في أوروبا وحسب، بل في آسيا، أفريقيا، وأيضاً الولايات المتحدة، سوى التعبير وبوسائل مختلفة، فكما لديهم محاذير وعلينا احترامها، بسبب آدابنا وأخلاقنا ومعتقداتها الدينية، التي تحتم علينا الاعتراف بالكتب وبالكتابيين والإيمان بالرسل والأنبياء أجمعين، فإن لدينا محاذير أشد صرامةً يجب عليهم أيضاً احترامها.
وحشيّة النظرة الغربيّة تجاه المسلمين، من الأيديولوجيا المتعالية، المدعومة بمنهاجية الجنس الأبيض دينياً وإعلامياً، التي ترى أن الحريّة تكمن في الاعتداء على الأديان كافة وبلا حدود، تتلاشى تماماً عندما تُذكر الساميّة، بسبب الحدود اليهودية التي وضعتها أمام مناخرها، احتراماً لها بالدرجة الأولى، وخشية أن تجلب الشر لنفسها بدرجة ثانية.
إن القيم التي تُحاول الدول الغربيّة من خلال مؤسساتها الحاكمة والإعلامية، غرسها في ذاتنا وعلى مراحل حياتنا، والمرتكزة على نعومة ممارساتها وبهرجة سلوكياتها، هي مرفوضة بالمطلق، لعدم استساغتها أو قبولها، لأننا جُبلنا على الفطرة القويمة التي فطرنا الله عليها وحسبنا هي، وإن كانت تلك الدول ترغب في المحافظة على أشكال العلاقات المتكافئة مع العرب والمسلمين، فعليها قبول محاذيرهم، ومن ثمّ ربط كِلابها.