الخنساء وحبة الجوز
الخنساء وحبة الجوز
الجزء السابع من يوميات بلا أسرار في المخيمات
نسيبة بحرو
سأحكي عن حبة جوز ، ليست كأي حبة .. إنها حبة الجوز التي تذكرني بحكاية سمعتها عن ثلاثين عاماً من الإيمان بالله والصبر في سبيله .. حكاية أستمد أحداثها وتفاصيلها من ذاكرة الأم المسنة .. الأم الصابرة الصامدة والتي عرفت بخنساء سوريا ..
تبدأ الحديث بقولها : نحن مقهورون ، وهذه الثورة نحن من نريدها وكنا ننتظرها منذ زمن . ثم تسترسل في رواية أحداث سبقت الثورة السورية بسنوات ، فتعود بذاكرتها الى عمر الصبا الذي ما عرفت به سوى الشدة والآلام بعد أن ترملت على يد المجرم الأب حافظ الأسد الذي قتل زوجها في سجن تدمر ، فبقي لها من أثره الأبناء الذين ورثوا عنه الشجاعة والإباء ..
احتسبت وأكملت الطريق وحدها ومضت بأبنائها على خطى والدهم ، فأخرجتهم من المدارس الحكومية وأدخلتهم مدارس الشريعة ومجالس الذكر والقرآن وزرعت فيهم حب الجهاد .. ولكن يد البطش التي طالت الأب كانت تمتد اليهم مراراً وتكراراً لتزجهم في السجون والمعتقلات أياماً وآلام ، يفرج عنهم حيناً ويعاد سجنهم حيناً ، ومنهم من اعتقل عام فذاق به من التنكيل والتعذيب ما أعاده إلى الخنساء الصابرة مريضاً وقد كان من أشد الشباب ..
ذاقوا ألواناً من الظلم والعذاب ولم تفارق ألسنة جلاديهم شتائم التهديد والوعيد إن لم يتركوا درب الأب ، ولكن ذلك ما زادهم إلا قوة وثبات وتحمل للصعاب ، وما ترك في نفوسهم سوى قنبلة تنتظر شرارة الإنفجار، وكانت شرارة الثورة السورية المباركة فانتفض الشباب وجمعوا معهم أبناء الجوار من كل حي ودار، وأشعلوا وقادوا المظاهرات ..
جاءهم النداء في جبل الزواية فانطلقوا لتلبيته تحثهم كلماتها وتحفهم دعواتها .. وفي مواجهة سلمية من طرف واحد ، وبكف أعزل أمام أسلحة الشبيحة ورصاص القناص ، استشهد ابنها الأكبر داوود المكنى بأبو صهيب برصاصة في عنقه وجاوره ابن عمه مستشهداً برصاصة في عينه .. فعادوا بهما إليها فاستقبلتهم في جزع متسائلة : أمقبلين أم مدبرين ؟ إن كنتم مقبلين فعلى رأسي وإن كنتم مدبرين فلا أريد أن أسلم عليكم . أجابوها : بل مقبلين أبطال ومعنا أبو صهيب شهيد . فاستبشرت قائلة : الحمد الله ، والله شرفني باستشهاده .
فاحت رائحة المسك من دمائهم الطاهرة تعطر المكان ، فأقبل الصبية يتمسحون بهذه الدماء الزكية ويتنادون فيما بينهم ولأهلهم أن أقبلوا لتتعطروا بما تعطرنا به .. أما الخنساء فقد سجدت لله شكراً وبلمسات وقبلات حانية ودعت فلذة كبدها الى مثواه الأخير ..
تصدر هذا المشهد نشرات الأخبار فهز صمودها العالم .. ثم فضحت جرائم النظام السوري ونددت به مما جعلها هدفاً لجرائمه ، فجهز لها أولادها للرحيل الى المخيمات خوفاً عليها من كيد نظام لا يفرق بين رجل أو امرأة مسنة .. وقبل أن تغادر ، حملت معها حبات من جوز كذكرى أخيرة من الوطن ..
وصلت الى المخيمات مع بداية شهر رمضان وذاقت من ويلات وصعوبات اللجوء ما ذاقت ، وحين أصبح الهلال بدراً بلغها خبر استشهاد ابنها الأصغرعباس والذي كان جنيناً حين استشهد والده ، فحمدت ربها وشكرت.. وصفته بالأقرب الى قلبها وشكت باستشهاده ألماً واحداً وهو أنها ما رأته وقبلته وودعته عند استشهاده كما فعلت مع أخيه ..
وختمت حكاية الصمود بدعائها : أسأل الله أن يجعلنا على قضاء حكمه من الصابرين ، وأن يكرمنا بكسرهم وبرجوعنا الى بلادنا وأولادنا بالنصر ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
ثم تلفتت يميناً ويساراً تبحث عن ضيافة تكرم بها زوارها فما وجدت عندها سوى حبات الجوز فآثرت على نفسها وقدمتها لهم .. هذه هي الخنساء التي أعادتنا بقصتها الى زمن الصحابة والصحابيات بما تجسد في صفاتها وحياتها من قوة إيمان وصبر وشجاعة وثبات .. إنها الخنساء وحق لها أن تسمى الخنساء ، وفي سوريا اليوم مئاتٌ من الخنساء ..
احدى حبات الجوز الثمينة وصلت لي ففرحت بها وأسميتها جوزة الصبر ، كرمز يذكرني بقصة خنساء سوريا ويعلمني الصبر والتضحية والإيثار في سبيل الله ، احتفظت بها فترة من الزمن ثم أرسلتها الى المزاد في نشاط خيري لتباع فيذهب ريعها لنصرة الثورة السورية ، والحقيقة أنه مهما أعطي لها من ثمن فلن يوفيها ذلك قيمتها الفعلية .. فهي تذكار الوطن ، وهي جوزة الخنساء التي لا تقدر بثمن .